واقعة تحرش جديدة تعيد تسليط الضوء على ظاهرة هي قنبلة موقوتة تهدد المجتمع المصري. لكن هذه الواقعة حدثت في الحرم الجامعي، طالبة تحرش بها زملاؤها، في وضح النهار وفي وسط الزحام، وفي وجود الأمن الذي عاد ليطأ أرض الجامعة. تم انتهاك الحرم الجامعي، ودخل التحرش الجامعة.
تلام الفتاة التي تقع ضحية للتحرش بتهمة الإثارة في الملبس والزينة والحركة والكلام، ويلام جيل الشباب كله بتهمة "قلة التربية" لوجود متحرش بينهم، ويلام انتشار التدين في المظهر دون الجوهر، وتلوم الفتيات المجتمع ونظرته المتدنية للمرأة، ويلوم الشباب الدولة التي لا توفر لهم فرص العمل والسكن ليتمكنوا من الزواج، وتستمر حلقة اللوم.
تعرضت 99.3% من الفتيات والنساء للتحرش الجنسي في مصر، و91.5% تعرضن لتلامس جسدي بغير رضاهن. إحصائية مفزعة طالعتنا بها دراسة من الأمم المتحدة (كيان تمكين المرأة). الأرقام خادعة أحيانا، وتحتاج إلى قراءة متأنية، فتعريف التحرش الجنسي واسع ويتضمن المعاكسة والصفير، والملاحقة والمطاردة، والنكات والقصص الموحية والألفاظ الخادشة للحياء، وكشف المتحرش لأجزاء خاصة من جسده أو الإيحاء بذلك، ولمس أي جزء من جسد المرأة، والاغتصاب، و والمطاردة الهاتفية، وكذلك التحرش في العمل مثل إبقاء الموظفة ساعات إضافية بلا داعٍ وإجبارها على الخروج معه.
لكن دلالة الإحصائي واضحة: التحرش ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وأغلب النساء يشعرن أنهن عرضة أو تعرضن له، وبالتالي يشعرن بالظلم وعدم الأمان (81% من النساء).
تبادل اللوم وتداول الظاهرة إعلاميا بابتذال يؤديان إلى أمر خطير وهو تقبل المجتمع لظاهرة التحرش واعتياده عليها، وهذا بدوره يؤدي إلى ازدياد انتشارها. المتحرش يستخدم لوم المجتمع لغيره ليبرر ضعفه أمام نفسه ويدافع عن فعله إذا تم "قفشه". ويؤكد علم النفس أن اعتياد الإنسان على رؤية مشاهد العنف والجريمة والتحدث عنها يؤدي إلى تبلد انفعاله بها عندما تحدث أمامه في الواقع.
في واقعة تحرش الجامعة ركزت الصحف الأجنبية على أمرين: لوم رئيس الجامعة للفتاة (اعتذر عنه بعد هجوم إعلامي)، واكتفاء المتواجدين بمشاهدة وتصوير الحادثة مما ينذر بأن المجتمع تقبل التحرش، فلم يحاول أحد التدخل لمنعه، بل يسمع في فيديو للواقعة شخص يدعو الناس ضاحكا لمشاهدة الفيديو الذي يسجله على الإنترنت. تشير دراسة (صندوق الأمم المتحدة للسكان، 2010) إلى أن 40% لن يتدخلوا عند رؤية تحرش.
للقضاء على ظاهرة، لا بد من دراستها لفهمها وتحليل أسبابها ثم اقتراح حلول ممكنة وتنفيذها. في دراسة لجهات مصرية ودولية (انظر الدراسة)، وجد أن المتحرشين أغلبهم من العاطلين عن العمل يليهم الطلبة ثم السائقين ثم الحرفيين ثم، وبنسبة أقل، أصحاب المحال ورجال الأمن والزملاء، وهم من كل الشرائح العمرية وبنسبة أكبر ممن هم تحت 25 سنة. ويكون غرض المتحرش تلبية حاجة جنسية (67.1%) أو مجرد تعود (25.8%) أو التعبير عن الرجولة والثقة بالنفس (24.7%) أو الشعور برغبة المرأة (11.3) أو إهانة وتحقير النساء (5.4%) أو الإحساس بالتقارب (4.7%). البطالة والفراغ واستثارة الغرائز لهم دور.
ويقع التحرش في كل الأوقات، ويزيد نهارا عنه ليلا. ويكثر في الشارع وفي المواصلات العامة، وبنسبة أقل في الأسواق والحدائق العامة، وأقل في المناطق المهجورة، وعبر الهاتف المحمول. أي يزيد التحرش في الزحام.
وبسؤال الرجال والنساء، هناك انطباع أن المرأة التي ترتدي ملابس مثيرة أو تضع مساحيق تجميل أو تتكلم وتتحرك بطريقة مثيرة أكثر تعرضا للتحرش، لكن بدراسة المتحرش بهن، ظهر أن التحرش والاعتداء الجنسي يقعان بلا تفرقة بسبب المظهر أو السلوك أو اللبس أو التزين أو المستوى الاجتماعي.
ورصدت الدراسة أن المتحرش بها غالبا تشعر بالرعب والأذى، أو تغضب وتصرخ، لكن بعد تكرر التعرض للتحرش، تشعر بالخوف من الخروج للشارع أو تلجأ لأدوات مؤذية للدفاع عن نفسها.
وغالبا لا تلجأ الفتاة إلى رجال الأمن، إما خوفا على سمعتها أو من أهلها، أو لاعتقادها بعدم وجود قوانين تعاقب المتحرش، أو لغياب الشهود. ويقتصر تدخل الأمن عادة على إيقاف التحرش، وأحيانا قليلة يقبض على المتحرش ويصطحبه للقسم. لكن-حتى يحاسب-على الفتاة التوجه إلى القسم وتحرير محضر وإثبات واقعة التحرش. وهذا يمثل عائقا بسبب مخاوف الفتاة وصعوبة الإثبات.
للحد من التحرش، يجب تيسير إجراءات ضبط المتحرش وتمكين الشرطي من تحرير محاضر حالات التلبس فورا، هكذا يرى خبراء القانون. ويجب وضع قوانين بعقوبات أشد على المتحرش. فعلى ما يبدو، القانون المصري ليس به نصوص تعرف التحرش وتعاقبه، بل يتم الالتفاف حول بعض نصوص القانون الجنائي.
ويقترح تكثيف تواجد أفراد الأمن في أماكن وأوقات الازدحام، وتدريبهم على كشف التحرش وضبط المتحرش متلبسا حتى يتسنى معاقبته، ما سيردع غيره فتقل الظاهرة تدريجيا.
في الولايات المتحدة، تقام دورات عن التحرش في أماكن العمل. نحتاج في مصر إلى حملة إعلامية وخطاب ديني للتعريف بالتحرش وعواقبه، وللحث على احترام المرأة أيا كان مظهرها، ولتشجيع الشهود على التدخل لإيقاف الواقعة والإدلاء بشهادتهم.
إن حادثة التحرش التي حدثت في الجامعة، علانية وبلوم الضحية، إذا تم ربطها بأحداث شهدتها الجامعات مؤخرا، من استشهاد طلاب داخل الحرم وفي المدرج ودخول رجال الأمن بسلاحهم وسط الطلاب، يؤدي إلى التساؤل: هل فقد الطلاب شعورهم بالانتماء للجامعة وبروابط الزمالة فأصبحوا يستهينون بالتحرش بزميلاتهم كما استهين بدماء زملائهم؟