عرض أهل الوراق
محمد سعد عبدالحفيظ
عرض أهل الوراق
الأرض في مصر كالعرض، والفلاح الذي يتنازل عن أرضه كمن يتنازل عن عرضه، هذا ما لا يفهمه عادة "فوريجة" البنادر، ممن لم تٌعفر وجوههم بتراب الحرث ولا تشققت أيديهم من العزق بالفأس ولا سهروا في ليالي الشتاء الباردة السوداء ليروون بضع قراريط يأكلون من خيرها ويحمدون الخالق على الفتات القليل المخلوط بالعرق والدم أحيانا.
اعتاد بعض أهل البندر بيع كل شيء، الأرض والبيت والضمير وأحيانا العرض، كل ما يمكن أن يباع يعرض في الأسواق، الأوطان أصبحت في قاموسهم سلعة يطرحونها في المزاد كغيرها من السلع.. "فتح المزاد.. مين يشتري.. بـ 10 مليار دولار مين يزود.. 20 مليار دينار مين يزود.. 30 مليار درهم مين يزود.. 100 مليار ريال مين يزود.. ألا أونا ألا دو ألا ترى.. العطا رثى على الشيخ طال عمره.. ننتهي من الإجراءات ونسلم جلالتك".
في صفقة بيع "تيران وصنافير" تعامل النظام باعتبار أن الجزيرتين ليس لهما صاحب، فلم يعرف لهما ملاك أو سكان منذ أن مارست عليهما مصر السيادة قبل تأسيس المملكة بقرون، ورغم تحذير بعض الأجهزة الأمنية من رد الفعل الشعبي حال إقرار عملية التنازل إلا أن صاحب قرار البيع مضى في طريقه واثق الخطى، فهو أدرى من تلك الجهات بالشعب المنهك الذي طحنه بقرارات الإصلاح الاقتصادي.
مرر النظام الاتفاقية وختم نواب الشعب كشهود زور على عقد البيع وتعاملت عصا الأمن الغليظة مع بعض الأصوات الغاضبة في الشارع، وتواطأ الإعلام ولم ينقل إلا ما أراد أبانا الذي في الجهاز نقله، وشارك إعلاميون في عملية التضليل المتعمد، وراهن كل هؤلاء على سقوط القضية مع الوقت من ذاكرة الشعب المثقوبة، قد يكون نجحوا تكتيكيا لكن المستقبل القريب سيفاجئء هؤلاء أن العار الذي لحق الوطن محفور في القلب لا يسقط أو ينسى، ولابد من يوم معلوم ترد فيه كل المظالم حينها سيكون الحساب بالجملة.
قبل أسابيع وتحت عنوان "تطوير جزيرة الوراق"، ذهب النظام برجاله ليخلي جزيرة يقطنها نحو 100 ألف مواطن توارثوا أرضها عن أجدادهم، أكلوا من خيرها زرعا وصيدا، حملوا عقود منازلها وحيازات أرضيها جيلا بعد جيل، دافع الأهالي عن جزيرتهم، تصدوا لقوات الأمن بأجسادهم، فسقط منهم شاب لم يكمل عقده الثالث بعد وأصيب العشرات واعتقلت الشرطة البعض.
غاب رجال الدولة عن الجزيرة منذ محاولة الاقتحام، وسارت شائعات عن بيع أرض الوراق لمستثمرين عرب ضمن مخطط لبيع 17 جزيرة نيلية أخرى باعتبارها من أملاك الدولة فأشهر الأهالي عقود تمليك الأراضي والبيوت في وجه النظام، فما كان من محترفي البيع إلا البحث عن مخرج آخر، فأرسلوا مفاوض يعرض هذه المرة الجزرة بدلا من العصا، وعرضت الحكومة عبر مفاوضها اللواء كامل الوزير رئيس الإدارة الهندسية للقوات المسلحة 200 ألف جنيه للقيراط في جلسة جمعت عددا من ممثلي الملاك.
الوزير أبلغ أهالي الجزيرة الذين بنوا على الأراضي بالمخالفة للقانون إن الدولة تقترح عليهم الحصول على سكن في حي الأسمرات بالقاهرة، أو الإسكان الاجتماعي الخاص بوزارة الإسكان والهيئة الهندسية، مضيفا «من يرغب من الأهالي في التراضي مع الدولة بعد بنائه على أرض الدولة، فالكشوف الخاصة بالبيع موجودة، بدلًا من أن يطبق عليه القانون لأنه مخالف، وذلك تجنبًا لوقوع مشاكل بين الدولة والأهالي».
خلال المؤتمر الذي جمع الوزير وعدد من الأهالي فوجئ الوزير بعدد من الشباب يتظاهرون أمام السرادق رافعين لافتة "الجزيرة مش للبيع"، فيما صرخ أحدهم في المنصة "لن نسمح بتهجيرنا من الجزيرة".
أمس الجمعة خرج المئات من شباب الجزيرة يهتفون "يا اللي ساكت ساكت ليه بعت أرضك ولا ايه.. مش هنفرط مش هنبيع لا محور ولا توسيع.. الجزيرة مش للبيع"، ورفعوا لافتات كتب عليها "همضي بدمي مش بالحبر عمري ما أفرط منها بشبر".
الوراق ليست تيران وصنافير، الجزيرة النيلية لها أصحاب، الأهالي دفنوا أباءهم وأجدادهم في تلك الأرض رووها بعرقهم ودمائهم أكلوا من خيرها، ولن يستطيع أحد أن يكرههم على بيعها أو التخلي عنها، فالأرض في عقيدة هؤلاء عرض، ولتيران وصنافير مقام آخر يجمع أهل السلطة بالشعب هذا المقام يعتبرونه بعيدا وأظنه قريبا.
