بيان الحكومة.. إعاقة إدارية تبحث عن علاج !
فتحى النادى
بيان الحكومة.. إعاقة إدارية تبحث عن علاج !
نصف قرن من العمل العام حاولت خلالها أن أحلق فوق أي مكان أعمل به أو أزوره بجناحين: العلم والخبرة العملية.. ألتقي بكم هنا كل أسبوع مرة في محاولة للتحريض على التفكير في أمور حياتية من خلال مواقف تعرضت لها وتعلمت منها.
لو استطعت ألا أستمع لبيان أى حكومة فى مصر المحروسة لفعلت.. فقط ضرورة أن أكون مواطنا فاهما واعيا ومشاركا فيما يدور حوله هى التى تلزمنى بمتابعة بيانات الحكومات المتعاقبة التى تحاول أن تضرب الرقم القياسى فى تغيير الحكومات على مر العصور لكى تكون مصر الأولى والأفضل والأحسن فى تلك الخيابة مثلما تفخر بأنها الأفضل فى غيرها.
أحاول أن أستشف من أى بيان اتجاها أو سياسة عامة لحل جزء من تلال المشاكل التى تراكمت لأكثر من ستين عاما نتيجة لسوء الإدارة وعشوائية اتخاذ القرار وإقصاء الكفاءات وتحجيم دورها بل ومحاربتها حتى لا تزاحم من احتلوا المناصب وحصدوا المزايا وأصبحوا يتعالون على سادتهم من المواطنين بالواسطة ومسح الجوخ.. أصبح السادة فى قاع الهرم، بينما المتسللون للسلطة ومدعى العلم والخبرة يتمسكون بمواقعهم على قمة الهرم الذى يكسبهم حصانة أبدية يورثونها لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
أصبنا بمرض "فقر الدم السياسى" الذى هو أخطر بكثير من الالتهاب الكبدى الوبائى الذى يعانى منه ملايين المصريين ممن لا يجدون العلاج فى دولة تكتفى بفتح المستشفيات وترى أن العلاج ليس مسئوليتها وإنما مسئولية كل مريض.. ونعانى من فقر دم علمى بعد أن تحولت المدارس والمعاهد والجامعات عندنا إلى حضانات للجهل والبلطجة وانعدام الأخلاق والتربية، وأصبحت مهمتها أن تطبع شهادات يفرح بها من حصلوا عليها دون أن يتعلموا شيئا.
ونعانى من فقر دم ثقافى يجعل القراءة والإطلاع ترفا مقصورا على القلة الذين من فرط قلة عددهم أصبحوا "فًرجة" وصورة كوميدية لكائنات غريبة تجلس وبيدها كتاب أو صحيفة أو يجتمعون لحضور ندوة أو حفل موسيقى أو باليه أو أوبرا.. ونعانى من فقر دم أخلاقى فى غياب قوانين صارمة تحقق انضباط السلوك فى الشارع والأماكن العامة، وأصبحت لغة التخاطب اليومية لاتمس فقط الأعراض ولكن تجاوزت ذلك بالتطاول على الذات الإلهية ومقام الرسل والأنبياء، وتلاشت الشهامة والنخوة والرجولة حتى لم نعد نأمن على نسائنا من التحرش .. ونعانى من فقر دم حاد فى حقوق الإنسان بعد أن تغولت الجهات المنوط بها تأمين تلك الحقوق وصارت هى من ينتهكها ويدوسها بالأقدام، وصار كل من يتحدث عن تلك الحقوق فى الداخل أو الخارج ويطالب بها أو يحاول فضحها خائن وعميل ومتآمر يستحق التصفية.
كتب كثير غيرى عن بيان الحكومة وأعربوا عن خيبة أملهم فيه، ولكنى سوف أركز هنا على الأسباب دون الأعراض.. أوجه النقص التى سببت خيبة أملهم كلها أعراض لأمراض عانينا ولازلنا وسنظل نعانى منها إلى أن يتغير الحال ونعالج المرض فتزول أعراض المرض الأكبر الذى نعانى منه وهو "انعدام التخطيط الإستراتيجى".. بمعنى أن معظم خططنا الرسمية إن لم يكن كلها قصيرة الأجل لمواجهة أعراض تطفو على السطح حين يشتد المرض على شكل طفح جلدى فيخشى صانع القرار أن ينال ذلك من الصورة الوردية التى رسمها فى أذهان الناس بوعود براقة وآمال كاذبة ويشوهها فيسارع بإيجاد حلول وقتية سريعة تًسَكّن الألم ولكنها لاتعالج الداء.
وليس أدل على ذلك أنى حين كنت مستشارا للتطوير بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء هالنى وأزعجنى كثيرا أن يسألنى أحد رؤساء القطاعات (يعنى الرئيس المباشر لأكثر من إدارة عامة) عن معنى التخطيط الإستراتيجى .. وللأسف لم يكن وحده الذى يجهل المعنى وخطوات العمل وأدوات المراقبة وتقييم الأداء التى تندرج كلها تحت تلك التسمية، ولذلك قررت ألا استمر لأكثر من عام واحد لأنى أيقنت أنى لن أحقق بمثل هؤلاء أى تطوير خاصة وأنى أفهم دور الإستشارى على أنه دور يتخطى بكثير كتابة التقارير وتقديم التوصيات إلى تشكيل فرق العمل وتدريبها على تنفيذ الخطط وتحقيق النتائج.
بيان الحكومة أجاد تشخيص الأمراض وحفل بأكثر من 85 رقما يؤيد ذلك ، وأعطى وعودا وردية مخدرة لانجازات تأمل الحكومة تحقيقها، ولكنه لم يقترب من منطقة الخطر لأى مسئول وهى الإلتزام بتوقيتات محددة لإنجاز مايعد به .. ومن ثم نعتبر الخطاب من باب استيفاء مطلب سياسى والتزام دستورى واستعراض لبلاغة من صاغوه ومحاولة لكسب التأييد من خلال مخاطبة العواطف ودغدغة المشاعر، ولاشيئ أكثر من ذلك.
