رئيس التحرير: عادل صبري 06:12 مساءً | الخميس 28 مارس 2024 م | 18 رمضان 1445 هـ | الـقـاهـره °

أحلام المغفلين

أحلام المغفلين
26 مارس 2017

أحلام المغفلين

كريم الشاذلى

 

كنت في العشرين من عمري حينما شعرت بأن مصر على اتساعها صارت أضيق من أحلامي!.

 

بوابة الأمل تم إغلاقها فلا منفذ .. أو هكذا كنت أتوهم، فورة الشباب كانت غالبة، وعليه قررت طرق بوابة السفر إلى الخارج.

 

بدأت السعي نحو مكاتب السفر، حاملاً جواز سفري، وبعض المدخرات، ووعد من أمي بأن تجبر لي كسر ما قد تحتاجه رحلتي المتوقعة..

 

شهادتي الدراسية كانت حبراً على ورق، في أدراجهم الكثير منها، صندوق الخبرة كان خاوياً اللهم إلا من بعض الأعمال الدنيا التي لا تساوي الشيء الكثير، ومع هذا كنت أطلب عملاً يليق بأحلامي لا بأوراقي، وعليه طالت الشُقة، وأجهدني البحث، وزاد غضبي أكثر وأكثر..

 

كنت في العشرين من عمري حينما شعرت بأن مصر على اتساعها صارت أضيق من أحلامي!

 

إلى أن رآني أحدهم، نفذ سريعاً إلى داخلي قبل أن يبتسم مؤكداً أن تدابير الله هي التي جمعتنا، وأن العمل الذي يليق بشاب طموح مثلي ينتظرني تحت سلم الطائرة!

 

غير أن من طلب النفيس يجب أن يدفع ثمنه، وعقد العمل الذي يحمله يحتاج إلى سبعة آلاف جنية غير ثمن التذكرة وبعض المصاريف الأخرى.

 

وأين لي بمثل هذا المبلغ الضخم؟، نحن في تسعينات القرن العشرين، وتوفير هذا المبلغ قد يثقل ظهري بديون ما أتعس أن أبدأ بها مشواري، ثم هل العمل الذي يبشرني به الرجل يستحق هذه المغامرة؟!

 

بيد أن الرجل لم يسمح بحديث العقل أن يكتمل، فأخذ يفتح لي باب الأماني، مؤكداً أن المهنة التي يدخرها لي لا يصلح لها سواي!، إن صاحب العمل لا يريد سوى فتى طموحاً، أميناً، ذو نباهة ووعي، وهو ما يتوفر في شخصي ..

 

ولقد صدقته..!

 

لا بأس ببعض الديون، غداً ترد الودائع إلى أصحابها، وكيف لا وكل أحلامي تنتظرني عند مهبط الطائرة!.. هكذا قلت لنفسي.

 

دفعت ما كان مطلوب مني، وحينما جائت "التأشيرة" لفت نظري أن المهنة المدونة فيها هي "بائع شطائر"، قطبت حاجبي فانتبه الرجل، قبل أن يطلق ضحكة مرحة ناصحاً ألا ألتفت لمثل هذه الشكليات، كل ما هنالك أن الشركة الجديدة في طور التأسيس، وصاحب العمل "الكفيل" يستعجل وصولي إليه، فأرسل لي تأشيرة سريعة وحسب المهنة التي كانت متوفرة وقتذاك..

 

وصدقته..!

 

وجاء موعد سفري، ركبت الطائرة حاملاً طموح أسرة بأكملها، راسماً في مخيلتي أحلام وردية لم يتبق على معانقتها إلا القليل..

 

وبعد مرور القليل، هبطت من الطائرة لأجد أن لا شيء مما قيل لي كان حقيقياً، وأن مهنة "صانع الشطائر" تلك لم تكن فعلاً مهنتي الحقيقية، فأين لمثلي أن يترقى لمثل هذه المرتبة، علي أولاً أن أعمل عاماً كاملاً في ترتيب الطاولات، وتنظيف البلاط، والوقوف منتبهاً لطلبات الزبائن!

 

ولا مفر من المضي في الطريق إلى آخره، عقد الانتهاك لم يكن يسمح لي بتغيير وظيفتي قبل مرور عام وبشرط موافقة السيد أو "الكفيل" كما يطلق عليه.

 

غير أن الأسوء من ذلك أن رفاهية الشكوى لم تكن موجودة، والراتب الذي قطعوه لي كان ضئيلاً جداً، سأحتاج إلى عامين على الأقل كي أستطيع أن أسدد ديني، وأعود إلى بلدي مرة ثانية.

 

ولأن ليل القهر طويل، فقد كانت لدي فرصة كي أستطيع أن أراجع ما حدث، وأعي أول دروس الحياة، درس أن لا أعطل عقلي عن العمل، وألا أصدق ما لا يجب أن يُصدق.

 

وقتها لم أن قد سمعت بمقولة العالم الأميركي "كارل ساغان" من أنه  "إذا بدا لك أن شيء ما يبدو أروع من أن يكون حقيقياً فهو كذلك!".

 

إن الرجل الذي أفنى حياته بين علوم الفيزياء والفلك، وعمل بدأب شديد كي يبسط العلوم للناس يخبرك أن ما يبدو خيالياً هو كذلك!، وأن علينا أن نتريث كثيراً تجاه الوعود الضخمة، والأماني العريضة، والكلام المعسول.

 

بدءًا من إعلان زجاجة المياه الغازية التي يعدنا صانعوها بأنها ستخلب اللب، وتنعش الجسد، وانتهاء بدورات التنمية البشرية التي تؤكد قدرتها على إخراج المارد الكامن بداخلك، مروراً بالسياسي الذي تحتل دولته المركز الأخير في كل معدلات النمو ثم تراه يعدك أن تصبح البلاد على يده جنة الله في الأرض!

 

ذلك أن النصاب ـ في كل المجالات ـ يعتمد الوعود البراقة كجزء من حيلته للسيطرة على المغفلين، مطمئنا أن الناس في حالات الهشاشة النفسية (الخوف أو الارتباك أو حتى الطمع) تلجأ إلى تغليب ما يسمى "التفكير الرغبوي" كمنهج تتعامل به، حتى مع عدم منطقية ما يقال!

 

النصاب ـ في كل المجالات ـ يعتمد الوعود البراقة كجزء من حيلته للسيطرة على المغفلين.

 

هنا يأتي "ساغان" ليؤكد لك أنه كلما كان الكلام الذي يتلى عليك بعيداً عن المألوف، غريباً عن سنن الحياة فيجب أن تصنفه في خانة الشك حتى يعمل عقلك الناقد جيداً في تفحصه وتدبره مهما كان محبباً لك، أو لمس هوى في قلبك.

 

للأسف معظمنا لديه ميل لتصديق الخرافة طالما لعبت على وتر محبب، بلا شك كلنا نحب الأمل، غير أن كثيرون منا يذهبون إلى تصديق آمال كاذبة رغم وضوح كذبها بل ويعمدون إلى تسويقها كحقيقة واقعة.

 

من حقنا جميعاً أن نحلم ونشتهي ونريد، غير أننا لا يجب أبداً أن نعطل عضلة النقد عن استيعاب ما يقال لنا ووضعه على ميزان الوعي والتدبر فيه..

 

يجب أن نفصل رغباتنا وإلحاحها العاطفي علينا فلا تقف حجر عثرة أمام رؤيتنا للحقيقة، فلا شيء أتعس من إنسان ظن أنه يعانق الحلم واستيقظ على سراب..

 

ولا ألم يساوي ألم أن نكون مغفلين..

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية