
بين عهد التميمي وصفقة القرن
محمد مصطفى موسى
بين عهد التميمي وصفقة القرن
ليست مصادفة بالطبع أن يتسرب مصطلح "صفقة" من الأسواق إلى مجال السياسة، فالرئيس الأمريكي الحالي في الأصل سمسار، حقق ملياراته: "قناطيره المقنطرة"، دولارًا بعد دولار، من مفاوضات العقارات والسلاح و"أي عمل فيه مكسب".
المصطلح يتسق مع واقع الحال، ففي المعاجم يأتي الفعل صفق، بمعنى ضرب اليد باليد، لنقل السلعة من شخص لآخر، بعد الاتفاق على الثمن.
المؤشرات على طبيعة تلك الصفقة، بدت واضحة مع إعلان ترامب نقل عاصمة واشنطن من تل أبيب إلى القدس المحتلة، على أن الظاهر ونحن نودع عامًا ثقيلًا، ونستقبل آخر غامضًا، أن الصفقة لن تشمل المدينة العتيقة فحسب، بل إن ما يحاك في دهاليز البيت الأبيض، من قبل الإدارة الجمهورية ومعها زعماء القبائل وأولو النياشين العسكرية، ممن يسومون الناس في المنطقة العربية العذاب، يشي بأن فلسطين بأسرها قد تغدو معروضة في سوق نخاسة صهيوني، عملته الرئيسية "الشيكل".
هذا يثبته تصريح ترامب ذاته، بأن الصفقة ستشمل تبادل أراضٍ، وسيدخل في إطارها عديد من دول المنطقة، فيما تتحدث تقارير غربية عن توطين سكان غزة على أرض سيناء، من دون أن نسمع من رأس السلطة المصرية نفيًا قاطعًا حتى الآن.
وهنا يبدو السؤال لازمًا، فإذا كان الأمر صفقة، فالمفترض أن يكون للبيع مقابل ما، ذلك أنه ليس منطقيًا أن يحظى الصهاينة بما يشاؤون، ويخرجون من السوق بـ"البضاعة" التي طالما تحلقوا حولها بعيون ملؤها الجشع، من دون أن يحظى الطرف الآخر "البائع" أو بالأحرى "المتنازل" بالثمن.
فما المقابل؟ ما الثمن إذن؟
النظر في فسيفساء الخارطة السياسية العربية، يكشف دون لُبس عن أن الأنظمة الحاكمة، التي تدفع باتجاه "إبرام الصفقة"، على العموم، وبالتحديد في القاهرة والرياض، بوصفهما المركزين المحوريين، تتخبط في أزمة وجودية حقيقية، ذلك أنها إفراز انقلابات بطريقة أو بأخرى.
في مصر، جاء السيسي الذي لا يستنكف نظامه عن التشدق بالكيمياء التي تجمعه بنظيره الأمريكي، إثر انقلاب عسكري خشن، أريقت على جوانبه الدماء بغزارة، وما زالت تُراق.
صحيح أنه لا يترنح كما يزعم الواهمون، فمخالب أجهزته الأمنية تنشب كل يوم أكثر في لحم الوطن، فلا حراك ثوريًا يبدو ممكنًا، وكذلك الحال بالنسبة للانتخابات التي أصبحت على مرمى حجر، حيث يزداد الأفق السياسي انسدادًا مع غلق الطريق أمام أي مرشح بـ"الدُشم والمتاريس"، وكذا تدشين أفلام المقاولات عن التأييد الشعبي الجارف، ومن ذلك حملة: عشان "لا مؤاخذة" يبنيها، التي قالت إن عدد الموقعين بلغوا خمسة وعشرين مليونًا، ما يستدعي مقولة عادل إمام في فيلمه "عنتر شايل سيفه": "الساعة بخمسة جنيه والحسّابة بتحسب"!
إنه رئيس بالأمر الواقع، أو قل إن شئت: "الأمر القامع"، وهو ما لا يروق بالطبع للأنظمة الغربية التي تريد ديمقراطية من حيث الشكل، بما يرفع عنها الحرج أمام الرأي العام الذي نجحت جماعة الإخوان في الوصول إليه بصورة لا بأس بها، رغم المليارات التي ينفقها النظام المصري، والذي يقول: "احنا فقرا قوي" لتحسين صورته دوليًا، ورغم صفقات السلاح التي لا نعرف على وجه اليقين جدواها، ونحن نرى الإرهاب يرتع في سيناء، ونرى إثيوبيا أيضًا "تقل أدبها" وتمضي قدمًا في بناء سد النهضة، من دون أن تعير مصر اهتمامًا، في مشهد بائس يدمر "هيبة الدولة" التي أصبحت كالأسد على شعبها، وعلى الأثيوبيين نعامة.
إذن.. فإن المعادلة المصرية الواضحة، هي أن رأس السلطة يريد الكرسي، لدورة ثانية، من دون أدنى تسامح مع أي ملمح لعملية ديمقراطية، فالانتخابات رجس من عمل الشيطان، والحاكم لا ينازعه أحد في سلطانه، كما يقول فقه الديوثين.. وإزاء ذاك المطلب عليه أن يعقد الصفقة.
في السعودية أيضًا، يبدو حراك ولي العهد محمد بن سلمان انقلابًا من نوع آخر، فالشاب الذي وصفته صحف غربية بالطموح والأرعن معًا، يدهس في مسيرته نحو العرش، تقاليد العائلة المالكة، ويعبث بقواعد "العصبية القبلية" فيعتقل من يعتقل، ويحتجز من يحتجز، ويلاحق خصومه باتهامات الفساد، وهي اتهامات ذات سمتين أساسيتين، فهي من جهة مضحكة بالنظر إلى نمط إنفاقه الشخصي على اليخوت واللوحات، مثلًا، كما أنها متهافتة ذلك أن فساد المحتجزين لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة، ما يجعل مبرراته محض محاكاة رخيصة لتهمة الإرهاب أو الانتماء إلى جماعة الإخوان، التي وجد أقباط أنفسهم خلف القضبان في مصر جراءها!
هكذا تبدو الشرعية المطلوبة للملك المتحرق شوقًا مهتزة أو مجروحة من قبل "الأهل والعشيرة" آل سعود، ما يستدعي ظهيرًا أمريكيًا، يباركه ويهلل له، فإذا بالذين يرفضون يوافقون، فجميعهم اعتادوا على تلقي وتنفيذ الأوامر الصادرة من البيت الأبيض.. وهذا يقتضي منه إبرام الصفقة.
خذوا فلسطين إذن، حلالًا بلالًا على الصهاينة، والمقابل عروش عربية تستريح عليها مؤخرات الذين يحكمون، يشرفون وهم قاعدون على تجويع وإفقار وتعذيب وقمع شعوبهم، من دون أن ينبس الغرب الديمقراطي ببنت شفة، أو يرتعش له جفن.
الدفع بأن هناك في الأفق سيناريو آخر، هو محض هرطقة، تمامًا مثلما يهرطق ضبّاط الإيقاع الإعلامي على الفضائيات المصرية الممسوكة بيد من حديد، بأن مصر تستعيد ريادتها الدولية، والدليل كما يقول أحد ضيوف أحمد موسى أن ترامب قال للسيسي إنه معجب بحذائه!
لا ريادة ولا يحزنون، إنما هو سوق نخاسة صهيوني، يبيع التجار العرب فيه، كل ما يستطيعون بيعه، مقابل كراسي الحكم، يطرحون فيه "سلامهم الدافئ"، يحجون إلى تل أبيب، وربما يعتمرون القلنسوة اليهودية، ويقفون أمام ما يسمى بـ"حائط المبكى"، حتى يرضى عنهم مجرمو الحرب الصهاينة، ومعهم متطرفو الإدارة الأمريكية، فقد سقطت كما يقول شاعرنا الراحل نزار قباني: جدران الحياء.
على أن السيناريو ليس أحاديًا، فالمخرج لا يملك خشبة المسرح بالكامل، وهناك على الأرض متغيرات قد تقلب الأمور رأسًا على عقب، وهناك رغم الخسة والنذالة والابتذال، بارقة أمل دائمًا تبقى مرهونة بما يخرج من رحم فلسطين من انتفاضات.
إن نظرة إلى عيني الطفلة "عهد التميمي" الجميلتين المتحديتين الشجاعتين تحمل الأمل، فتفاءلوا بالثورة تجدوها... وكل عام والثابتون على الحق ثابتون.