
الممثل الفاشل
محمد مصطفى موسى
الممثل الفاشل
هل شاهدت عرضًا مسرحيًا مرةً، فضجرت بالممثل ومنه، وسئمت متابعته، وتمنيت أن تنشق الخشبة فتبلعه؟
يحدث ذلك كثيرًا، فالأداء التمثيلي إما أن يجذب المتلقي، فيستحث حواسه لصناعة حالة تعاطف ما، تنسرب إلى المشاعر، عبر ما تسميه نظرية أرسطو للدراما، بـ"التقمص الوجداني"، والتي يضع المتلقي نفسه خلالها محل البطل، فيحس إحساسه، ويفكر تفكيره، ويبرر أخطاءه، ويكره أعداءه، ويحب فتاته، في حالة، وفي أخرى ينحاز ضده سلبيًا، فيستقبح خطاياه، ويدين آثامه.. إما ذلك، أو أن تتحطم جسور التواصل، فيصاب المشاهد بالملل، ومن ثم ينفر من العمل بأسره.
الممثل البارع هو الذي يؤدي ببساطة، أو كما يقول السينمائيون بالتعبير الدارج: "سايب إيده"، فيغدو تلقائيًا طبيعيًا، لا ينخفض منسوب انفعالاته ولا يزيد عن مقتضيات الدور، وهذا نادر في السينما المصرية، وإذا وجد فإنّما يرجع إلى الموهبة الفطرية، كما أتيحت للعبقري أحمد زكي، الذي "جننّا" حين أدى السادات، فكان هو، وجسد عبدالناصر، فكان هو، وتقمص طه حسين، فكان أيضًا هو، أما في السينما الأمريكية، فالأمر جدٌ لا هزل فيه، والتعويل على التدريب والموهبة معًا، وليس غريبًا أن يدلف ممثل ناشئ فصلًا دراسيًا، أو يلتحق بدورة تدريبية على فن الإلقاء، فيجد على مقاعد التلاميذ نجومًا، بحجم روبرت دي نيرو، وجوليا روبرتس، وميريل ستريب، وهم متوّجون بجائزتي أوسكار وجولدن جلوب.
وعليه فإن الممثل الفاشل نوعان، الأول، مفتعل مصطنع، يبالغ في تعبيراته، الصوتية والحركية، فيفرط في الضغط على مخارج الألفاظ، ويلوح بيديه من دون مناسبة، وترتسم الانفعالات بفجاجة على محياه في غير سياقها، والثاني بارد، بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وكلاهما لا يستسيغه المتلقي.
إلى النوع الأول ينتمي حمادة هلال، نموذجًا لا مثيل له في الافتعال، والغريب أنه يجد منتجين يراهنون عليه، بل ويسندون إليه أدوارًا كوميدية، تفقع "كل حاجة"، هذا بالإضافة إلى أغانيه التي لا تعدو إلا أن تكون وصلات عويل ميتة المشاعر، كفعل النائحات المأجورات في سرادقات العزاء، وإلى الثاني تنتسب مريم فخر الدين، التي لا يمكن أن نتذكر مشهدًا مميزًا لها، فنبرات صوتها، وتعبيرات وجهها، على وتيرة واحدة، سواء كانت بنت باشا أو فلاحة كادحة.
من الطرائف أن مذيعًا سأل عبدالحليم حافظ مرةً، مَنْ أثقل الممثلين ظلًا؟.. فإذا بالعندليب الذي لم يكن ممثلًا فطحلًا، يدلي بدلوه، متخليًا عن لباقته، ليقول: صلاح نظمي، ما دفع الفنان الراحل، الذي برع في أدوار الشر، إلى رفع دعوى قضائية ضده، انتهت بأن "طيّب" العندليب خاطره، مُستغلًا أن شرير السينما كان قلبه قلب طفل، إلى درجة أنه في حياته خدم زوجه المشلولة ثلاثين عامًا، وكان ينفق كل ما يكسبه على علاجها، من دون تبرم أو ملل.
وإذا كانت الموهبة كفيلة بصناعة ممثل مبدع، فإن التدريب وحده لا يحقق ذلك، وبما أن العلاقة بين الرؤساء والجماهير، هي علاقة تفاعل تعتمد إلى حد كبير قوانين الدراما ذاتها، فإن هناك رؤساء برعوا في التواصل مع الناس، والتأثير فيهم، لصفات فطرية، يسميها علماء الاجتماع السياسي بـ"الكاريزما"، وهناك رؤساء نفر الناس منهم، وانفضوا من حولهم، رغم خضوعهم لدروس في الخطابة ومهارات الاتصال الجماهيري.
صديقي وزميلي العزيز، أحمد شوقي العطار، وهو من خريجي معهد السينما، يحلل أداء السادات في الخطاب الذي أفصح فيه عن نيته السفر إلى "عقر دار الإسرائيليين"، متجاهلًا أن الدار دار الفلسطينيين أصلًا، من أجل ما سماه السلام، فيقول: "كان يعلن تفاصيل جريمته، لكن أداءه جاء مبهرًا، فإذا بالناس تستقبل الجريمة بالتصفيق"، مضيفًا "لو أن زعيمًا يستحق جائزة أفضل ممثل لحصدها السادات على هذا المشهد بالتحديد".
وإذا كانت أدوار السادات، تنوعت كثيرًا، ربما بحكم أن التمثيل كان من أحلامه المبكرة، ولمّا وجد نفسه في غفلة تاريخية رئيسًا، مارس هوايته تلك على الشعب، فمرة هو الرئيس المؤمن، ومرة هو رجل الفضيلة الذي يريد استعادة "أخلاق القرية"، ومرة هو القائد العسكري ذو الملابس المزركشة بالنياشين والأوسمة، ومرة هو الرجل الديمقراطي التنويري، لكن ديمقراطيته تلك كانت ذات أنياب، بما يجعل ذاك الدور بالتحديد كوميديًا، غير أن التفوق في الأدوار الكوميدية، لم يتسنَ له، فالقذافي نازعه الصدارة وانتزعها، فصار حتى مصرعه النجم الأول، ليس في العالم العربي فحسب، بل في مشرق الأرض ومغربها، حتى أن الأعناق كانت تشرئب لملاحقته، والعيون تحملق لمتابعته، خاصة إذا خطب منتفشًا بجنون العظمة، فشتم الإمبريالية الاستعمارية التي تتآمر على بلاده "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي"، وتريد استعمارها لأنها كما قال في خطبة، تطمع في استغلال ثرواتها، ومن أبرزها البطيخ الذي يتفوق "احمرارًا وحلاوةً" على "البطيخ الغربي"!
والظاهر أن القذافي كان فكرة، والفكرة لا تموت، فإذا كان الله قد قبضه، فإنه عز وجل لم يحرم البشرية خليفة له، غير أن الخليفة، وإن شاطره جنون العظمة، لم يرث خفة ظله، ما يجعل أداؤه الكوميدي، سخيفًا مملًا، وفي أحيان أخرى، مُثيرًا للحزن، ومُستدرًا للدموع، كأي ممثل فاشل، لا يعرف كيف يؤدي دوره، فيتمنى المشاهد حقًا أن تنشق الأرض فتبلعه إلى أسفل سافلين.