
خدعوك فقالوا: "يبنيها"
محمد مصطفى موسى
خدعوك فقالوا: "يبنيها"
لم يستغرق الأمر أكثر من ست عشرة سنة، حتى تتفتت الجمهورية التي وحدتها قبضة المارشال، "جوزيف تيتو" الفولاذية، إلى سبع شظايا مبعثرة، على خارطة القارة العجوز، ليس هذا فحسب، بل إن ذاك الانهيار، سدده شعبها فادحًا موجعًا من دمائه، التي تدفقت أنهارًا، في مذابح حصدت الآلاف.
في التفاصيل، تتشابك الخيوط، فثمة خيط لمؤامرات خارجية، أو بتعبير المرحلة المصرية الراهنة: "أجندات"، فالولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، قررت إطلاق رصاصة الرحمة على كل ما هو اشتراكي، وثمة خيط من خطايا نظام، بذر بذور الشقاق، حيث أراد دولة متماسكة، وثمة خيط يتعلق بالتركيبة العرقية والدينية للجمهورية المنهارة، ومع ذاك التشابك المعقد، سقطت البلاد، في فخ التقسيم، وقبله في سلسلة حروب دموية ومجازر، كان الكل فيها ضحية وجلادًا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بزغ نجم "تيتو" السياسي، رجلًا عسكريًا تشربت نفسه مبادئ الشيوعية، إبّان أسره حين كان مقاتلًا بدرجة رقيب في الفوج الكرواتي بالجيش النمساوي ضد روسيا القيصرية، فمكث في السجون نحو عامين، حتى اقتحمها الثوار البلاشفة، فتنسم الحرية في رياح موسكو الباردة، مع بدء "الحقبة اللينينية".
ولمّا عاد الرقيب الذي ترقي في مرحلة لاحقة إلى "مارشال" أي فريق، إلى بلاده حيث جيش الاحتلال النازي يعربد فيها، بعد تنازل الملك "بيتر الثاني" عن عرشه، وفراره إلى بريطانيا، خوفًا من أن تُطوّح مقاصل هتلر رأسه، أخذ يشكل الكتائب التي قاتلت الألمان بضراوة، حتى خرجوا يجرون أذيال الخيبة، وبلادهم مشطورة، إلى نصف شرقي، وآخر غربي، أما الديكتاتور الذي قادهم إلى الهاوية فقد مات منتحرًا.
وعلى عكس قادة عسكريين "كلاسيكيين"، لم يفكر "تيتو" في استعادة الملكية، بل طمح إلى نظام جمهوري، اشتراكي على وجه التحقيق، وقد بلغ مآربه، عبر المشي بخفة، على الحبال في سيرك الخلافات السياسية بين القوتين العظميين، أمريكا والاتحاد السوفيتي، اللتين تصدرتا العالم وتقاسمتاه، بعد الحرب.
وغني عن القول، إن التقارب أكثر من اللازم مع "موسكو" كان سيمسخ يوغوسلافيا، لتغدو جُرمًا ضئيلًا يدور في فلك الاتحاد السوفيتي، مثل ألمانيا الشرقية والمجر ورومانيا وبولندا، وهو الأمر الذي لا يلبي طموح "تيتو" إلى زعامة فردية، ولا يبل ريقه إلى العظمة، أو يناغي كبرياءه الذي تجسد مبكرًا حين نعتته الصحافة "المُؤممة"، كعادة الأنظمة الشمولية، باسم "لينين يوغوسلافيا".
كما أن العداء المباشر مع الاتحاد السوفيتي، كان سيُعرّض بلاده التي مازالت مثخنة بجراح الاستعمار النازي، إلى مخاطر الروس، وهم جيران على مرمى حجر، وطبيعي أن القوة العظمى ما كانت ستسكت على استئثار النفوذ الأمريكي، بأرض تقع جغرافيًا في حديقتها الخلفية.
وعليه، كان التحالف مع الولايات المتحدة، وتأسيس جمهورية شيوعية معًا، فهكذا يأمن جانب واشنطن، التي خرجت من الحرب الكونية الثانية، مزهوةً بعضلاتها النووية، بعد قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، ويتقي كذلك الاتحاد السوفيتي الذي ثمل من أنهار "فودكا النصر" إثر دحره الجيش الألماني الرهيب، في ستالينجراد، بعد مائتي يوم من القتال، خسر خلالها الألمان مليونًا ونصف مليون قتيل.
ولم تكن التجربة الاشتراكية اليوغوسلافية إذن، "سوفيتية خالصة"، فقد حرص "تيتو" على أن تتسم بمرونة نسبية، بما يتيح مساحة من مبادئ الرأسمالية الحرة، وهو الأمر الذي لم يرق لستالين، والذي أخذ يسخر "بصفاقة" من توجهاته، ويصفها بـ "الاشتراكية التيتوية"، ما "كهرّب" العلاقات بين "الديكتاتورين"، وتراشقهما لفظيًا، في عديد من المناسبات، إلى حد أن "تيتو" هدد خصمه برسالة خشنة: "توقف عن إرسال الصناديق المفخخة، وإلا سأرد الهدية".
أيما يكون.. فالمحصلة النهائية، أن "تيتو" نجح فعلًا في تأسيس جمهورية يوغوسلافيا الفيدرالية الاشتراكية، كيانًا متعدد الأعراق، ذا حزب واحد، وصوت واحد، ورجل واحد، جمهورية مستقلة، وفق قاعدة خمسين بالمائة للشرق، ومثلها للغرب، وفيها تمتع المواطنون بدرجة لا بأس بها من حرية ممارسة العقيدة، لكن إبداء مظاهر التدين لم يكن مما يمكن التسامح إزاءه، إذا بدر من أعضاء الحزب الشيوعي.
إنه الأخ الكبير، على غرار رواية "جورج أوريل" الشهيرة، ومن ثم ليس غريبًا أن يبايعه الحزب رئيسًا مدى الحياة، وأن تتستر المبايعة بورقة توت اسمها "جموع الشعب".
"الشعب يريد".. وكم من الجرائم ترتكب تحت هذا الشعار؟
إن الرجل ليس له "كفوًا أحد"، وإذا قيل، إن تداول السلطة السلمي، والانتخابات الشفافة النزيهة، هما صمام الأمان الوحيد، فإنما الرد الجاهز المبستر: أين البديل؟
وبمقتضى تلك المبايعة، حكم الرجل البلاد، نحو ثلاثة عقود، جمع في عشر منها بين رئاستي الجمهورية والوزراء، ولم لا؟ إنه كما يزعم حملة المباخر، "القائد القوي"، وهو اصطلاح مغرٍ يدغدغ مشاعر العامة الذين يعشقون القوة، رغم أنها من الخصال التي يمكن أن تكون لرافعي الأثقال مثلًا، لا الزعماء، الذين ينبغي أن يوصفوا بالحكمة وبُعد الرؤية والقدرة على التخطيط الاستراتيجي، وتلك سمات لا تتسنى على وجه اليقين لفرد، مهما كان نابغًا، أو "طبيب فلاسفة يسمعه العالم كله"، وإنما لنظام سياسي تشاركي، من أهل الخبرة، لا أهل الثقة.
وإذا كانت يوغوسلافيا "التيتوية" سمحت بدرجة لا بأس بها من حرية ممارسة العقيدة، إلا أنها تعاطت مع إظهار المشاعر القومية بقسوة مفرطة، ذلك أن "تيتو" ظل يتوجس خوفًا من تبعثر فسيفساء "جمهوريته"، وقد ارتأى في التعددية الثقافية خطرًا بالغًا، لا عنصر قوة، ومن ثم قرر أن "يتغسلَّف" الجميع، بالقوة الجبرية، وتأسيسًا على ذلك، توسع في إقامة المعتقلات، ومنها معتقل شهير على جزيرة "جولوأوتوك" بالبحر الكاريبي، مورست فيه أبشع أنواع التعذيب، التي تبدأ بحفل استقبال للسجناء، واصطفافهم في طابور للبصق عليهم، في محاكاة حرفية لآليات "المانفيستو السوفيتي الستاليني".. فالنقل هنا مما يُستحب، والديكتاتوريون قد يختلفون فيما بينهم، لكنهم يتفقون على قمع شعوبهم بالوسائل ذاتها.
وبما أنه "ديكتاتور عادل" فلم يحرم أحدًا من خصومه من التعذيب، وقد عانى الاشتراكيون الأمرين، وكانت لحومهم تُهرس هرسًا، بشبهة تأييدهم عدوه اللدود "ستالين"، وكانوا يُساقون إلى المحاكم الصورية، التي تسوقهم مجددًا إلى المشانق فرادى وزرافات.
هكذا بدت الجمهورية مستقرة، وحفظ "الديكتاتور" هيبة الدولة، منذ خروج الاحتلال الألماني حتى وافته المنية عام ألف وتسعمائة وثمانين، لكن هذا الاستقرار وتلك الهيبة، كانتا أشبه بقصر فوق رمال، تحركت فجأة فابتلعت كل شيء.
واهم من يرى أن انهيار يوغوسلافيا إلى سبعة كيانات، هي "صربيا، والجبل الأسود، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وإقليم كوسوفا"، يرجع إلى موت "تيتو".
واهم من يقول بأن المذابح التي اصطلى المسلمون في البوسنة وكوسوفا على وجه التحديد نيرانها، ترجع إلى غيابه عن المشهد فحسب.
الحقيقة باختصار أن الديكتاتورية، تحمل في جيناتها الوراثية، أمراضًا مستعصية، قد تتأخر أعراضها، لكنها تظهر فور إضعافها رويدًا رويدًا مناعة المجتمع، وهذا ما حدث عندما شرع الصرب بقيادة "سلوبودان ميلوسوفيتش"، فك عرى الجمهورية، لتأسيس "صربيا العظمى"، فإذا بالعرقيات التي تعايشت في الكبت، تشهر سيوفها في وجه بعضها البعض.
الكثيرون في الجمهوريات اليوغوسلافية المنحلة، يكابدون الآن حنينًا إلى "أيام تيتو"، كما يحن عراقيون إلى صدام، وليبيون إلى القذافي، فالبسطاء إذا خُيّروا بين ديكتاتور يحقق الاستقرار، وفوضى مجهولة العواقب، يختارون الديكتاتورية، لكن هذا ليس الخيار الصائب أبدًا.
الحنين إلى "تيتو" يمكن تبريره، لا تأييده، في إطار ما حققه من منجز تنموي، وما حصده من مكانة دولية، تعاظمت بعد تأسيسه حركة عدم الانحياز، وكذلك بناء دولة مستقلة في فترة مضطربة حقًا من التاريخ، لكنه "حنين أحمق غوغائي"، فالديكتاتورية مهما أنجزت، من دأبها أن تضع المجتمع فيما يشبه وعاء الضغط، والحتمي أن الامتلاء بغازات الغضب، سيحدث الانفجار في لحظة ما، وعندها يكون التردي إلى الفوضى والجحيم وشلالات الدماء، فما بالنا بديكتاتوريات الفشل والديون والتنازل عن الأرض، التي يطبل لها البهاليل، وهم يرفعون استمارات على نحو "هنبنيها"، وهم يتعامون عن الخراب الذي يتراكم فوق بعضه بعضًا؟