الغول والعنقاء وشرطة الشعب
تامر أبو عرب
الغول والعنقاء وشرطة الشعب
بعد ثورة يناير كانت قضية إعادة هيكلة وزارة الداخلية هي المسيطرة على كل النقاشات، كان الجميع يدرك أن الداخلية هي الشرارة التي أشعلت الثورة بعدما تورطت في القتل والتعذيب والتلفيق دعمًا للنظام الحاكم، وكانت هناك رغبة أكيدة لتحويلها إلى شرطة مهنية وطنية تحمي الشعب وتقوم بواجبها تجاه الوطن دون التصاق بنظام أو عمل في خدمة رئيس.
وقتها طرح البعض فكرة تولي شخصية مدنية قانونية أو حقوقية حقيبة الداخلية لاسيما أن جميع القيادات العليا الموجودة في الوزارة عملت وترقت وجرى تصعيدها في أجواء غير صحية ومن ثم لن تكون أمينة بما يكفي على التجربة الجديدة، لكن هذه الفكرة ووجهت بعاصفة من الرفض والاستنكار والاستغراب، ولم يستوعب غالبية السياسيين فكرة تولي مدني مسؤولية الوزارة وفضّلوا البحث عن شخصية كان يكرهها حبيب العادلي لتتولى المسؤولية.
ولأن الأحكام الانطباعية كانت أزمتنا جميعًا بعد الثورة لم تأخذ الفكرة حقها في المناقشة وتولى مسؤولية الوزارة لواءات لا يختلفون كثيرًا عن حبيب العادلي رفعوا السلاح سريعًا في وجه المتظاهرين وحافظوا على معدلات التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، وفي المقابل حافظوا أيضًا على معدلات الفشل الأمني والعجز عن أداء الوظيفة الأساسية لصالح وظائف أخرى.
الواقع يقول إن دولًا كثيرة في العالم خاصة المتقدم منه تولي المدنيين مسؤولية وزارة الداخلية، بل إن الأمر كان شائعًا في مصر نفسها قبل حركة الجيش في يوليو 1952، والمفارقة أن عيد الشرطة الذي خرج فيه المصريون عام 2011 لمواجهة إجرام الشرطة البطل فيه كان وزير داخلية مدنيًا اسمه فؤاد سراج الدين.
الباشا فؤاد كان وزير داخلية مصر في حكومة الوفد مطلع الخمسينات، وقاد حركة الشرطة ضد المستعمر البريطاني في مدن القنال التي ألحقت بالمستعمر خسائر كبيرة جعلت بريطانيا العظمى تفكر جديًا في الجلاء عن مصر.
هذه الحركة المقاومة تكللت بما حدث يوم 25 يناير 1952 حين رفضت شرطة الإسماعيلية تسليم أسلحتها وإخلاء مبنى المحافظة للقوات البريطانية بأوامر من سراج الدين وصمدت القوة ساعات طويلة أمام القوات البريطانية رغم أنها لم تكن تملك سوى أسلحة خفيفة، وأسفر الاشتباك عن استشهاد 50 شرطيًا مصريًا وإصابة 80، وألقت هذه الواقعة بوقود جديد على حركة المقاومة ضد الاحتلال وضد القصر، لتصل هذه الحركة إلى ذروتها عشية 23 يوليو من العام نفسه.
هذا ما فعله وزير داخلية مدني فأرونا ماذا فعل اللواءات غير القتل والتعذيب والوقيعة بين الشعب والشرطة التي من المفترض أن تحميه !
لا يفهم أحد أننا لسنا ضد الداخلية كمؤسسة ولكن ضدها كأفراد يديرون المنظومة بضحالة منقطعة النظير ويضعونها في خصومة مجانية مع الجميع في معركة لا ناقة لها فيها ولا جمل، وسيبقى الوضع كذلك مادام يتولى منصب وزير الداخلية لواءات كبروا وترعرعوا في عصر مبارك ويعتقدون أن المهمة الأولى لوزارتهم حماية النظام من الشعب لا حماية الشعب.
قد يبدو الحديث في هذا الأمر الآن رفاهية مبالغا فيها، فبينما تمر اليوم الذكرى الخامسة على ثورة يناير تعيش الثورة الآن أضعف حالاتها لدرجة أن غاية ما يفكر فيه كثيرون الآن إخلاء سبيل بعض المعتقلين بعفو رئاسي والتوقف عن ملاحقة بقية المشاركين في الثورة، ولذلك ليس منطقيًا الحديث عن تولية وزارة الداخلية لمدني والبحث عن سياقات تاريخية تدعم ذلك.
لكنني أرى أن خير إحياء لذكرى الثورة أن نتحدث عن أخطائها والفخاخ التي سقطت فيها وما كان يجب أن نفعله وتركناه، حتى إذا كتب الله لنا عودة قريبة كانت لدينا قائمة أولويات ننجزها تباعًا، لأن غيابها في المرة الأولى أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
