بوين فيفير.. الحياة الطيبة في التنمية والسياسة
مجدى سعيد
بوين فيفير.. الحياة الطيبة في التنمية والسياسة
بوين فيفير Buen Vivir هو تعبير إسباني يعني في الترجمة المباشرة "الحياة الطيبة"، وهو مفهوم بديل ورؤية جديدة للتنمية تبناها الدستور في كل من الإكوادور وبوليفيا عامي 2008 و2009 على التوالي، وهو مفهوم جديد للتنمية يمزج ما بين رؤى العالم الخاصة بقبائل سكان أمريكا الأصليين في تلك البلاد والمتحلقين حول جبال الأنديز وما بين الرؤى الغربية النقدية للرأسمالية ولمفهوم النمو في الإنتاج والاستهلاك، حتى أنه صار أحد الرؤى العالمية المطروحة لعالم "مابعد النمو Post-Growth"، فتعالوا نتعرف عليه.
التعبير الإسباني هو ترجمة لتعبير Sumak Kawsay بلغة قبائل الأنديز، خاصة القويشوا Quechua مما يشير إلى جذور المفهوم العميقة في ثقافة تلك الشعوب، والنابع من ثقافتها ورؤاها للعالم خاصة في العلاقة مع الطبيعة، والذي تتمحور فيه الرؤية التنموية حول مؤشر السعادة بديلا عن مؤشر "الناتج المحلي الإجمالي". ظهر المفهوم في سياق الصعود السياسي لليسار إلى منصات الحكم في عدد من دول أمريكا اللاتينية بعد تصاعد الضجر من "الإصلاحات" النابعة من السياسات التنموية لليبرالية الجديدة، والتي سادت تلك البلاد قبل طوال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، والتي أثبتت فشلها ومحدوديتها في تحسين الحالة الاجتماعية للفقراء أو التخفيف من آثار انعدام المساواة. وقد برز المفهوم كما قلنا في كل من الإكوادور وبوليفيا وهما بلدا يتميزان بارتفاع نسبة السكان الأصليين فيهما، والذين يصلون في بوليفيا إلى 55% وفي الإكوادور إلى 35%.
تنامت الأفكار الخاصة بالحياة الطيبة في أمريكا اللاتينية مع بداية الألفية، كنتاج لعدة أسباب منها استنفاد الموارد الطبيعية، وتغير المناخ، وبروز نموذج حياة السكان الأصليين والذين عاشوا لقرون دون الحاجة للفلسفات الغربية في التنمية، ومن ثم فقد تبنى الدعوة إلى مفهوم الحياة الطيبة عدد من المفكرين المحليين، ومن ثم تمت صياغة الدستور في البلدين خلال الفترة بين عامي 2006 و2008، واستهدف إحداث تغيير وتحول في مجتمعيهما، يستهدف تقوية البنى المجتمعية وبناء ديمقراطية تشاركية في مجتمعات متعددة القوميات، وضمان حق التغذية والصحة والتعليم والمياه، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحق الأفراد والمجتمعات والشعوب ومسئوليتهم في إطار تعدد الثقافات، والتنوع البيئي، والتعايش المتناغم مع الطبيعة، والحفاظ عليها وفقا للحكمة النابعة من رؤية وتقاليد شعوب أمريكا الأصليين ورؤيتهم الكونية، والتي تنبني على أن الحياة الطيبة الحقيقية يمكن أن تحدث فقط في إطار مجتمعي، وأن خير المجتمع مقدم على خير الأفراد، وأن ذلك المجتمع ممتد المعنى حيث يشمل الطبيعة بنباتاتها وحيواناتها وأرضها، وأن الطبيعة يجب أن ترعى وتحترم كجزء قيم من المجتمع، وأن الأرض لا يمكن أن تملك، وإنما يجب أن تكرم وتحمى.
كيف يمكن التحول إلى الحياة الطيبة؟
في مقال لها على موقع تحالف باشاماما Pachamama.org منشور بتاريخ 17 يونيو 2015، أشارت فيه جوسلين ميركادو Jocelyn Mercado إلى أربع خطوات للتحول إلى الحياة الطيبة:
- زيادة شعبية العيش المتقشف: يمارس هذا من قبل أولئك الذين يتبنون نمط حياة صفر نفايات، وحركة المنزل الصغير، والعودة إلى الأطعمة الطبيعية، والعضوية، والنباتية، والنيئة.
- المساءلة البيئية والإصلاحات الضريبية: بزيادة شعبية المزايا الضريبية لتوفير استهلاك الطاقة، وللشركات الخضراء أو الصديقة للبيئة. ضريبة الكربون التي تنفذ بالفعل في بعض البلدان، تخلق تسعيرا يعكس التكلفة الحقيقية التي تضر بالبية أثناء الإنتاج، والشحن أو بسبب المواد المستخدمة.
- استراتيجيات "تراجع النمو Degrowth" المستدامة: "تراجع النمو" أو أو تباطؤ الاستهلاك هو جزء ضروري لا مفر منه في أي خطة معقولة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. فالجواب ليس فقط في إيجاد مصادر بديلة للطاقة، ولكن أيضا في الحد من استخدام الطاقة، وبالتالي الحد من استنزاف الموارد الطبيعية. وهذا لا يحدث ليس فقط من زيادة الكفاءة (بالتحول مثلا غلى السيارات الكهربائية)، لكن الأأهم من ذلك من خلال ترويج بدائل مستدامة حقيقية (مثل المشي وركوب الدراجات بدلا من قيادة السيارات).
- إنتاج محلي وأصغر: بديلا عن استيراد وتصدير المنتجات من وإلى الصين (على سبيل المثال) على كل منطقة أن تنتج فقط ما تحتاجه. ويجب استخراج والاستفادة من الموارد الطبيعية على مقدار الطلب الإقليمي فقط. هذا بادئ في الحدوث للتو في أمريكا اللاتينية، فمزيد من الأسر بدأت في استنبات ما تطعمه، وفي البحث عن المنتجات الغذائية للمزارع الصغيرة والمحلية والعضوية بدلا من الشراء من سلاسل متاجر البقالة الوطنية. لكن هذه الحركة لا زال أمامها طريق طويل عليها السير فيه من أجل إحداث تحول يكون عاملا رئيسيا في زيادة قبول مفهوم الحياة الطيبة.
وكما تعلق ميركادو، فإنه ليس غريبا أن يواجه تنزيل أساسيات ومبادئ البوين فيفير أو الحياة الطيبة في البيئة السياسية والاقتصادية السائدة في بلدان العالم حاليا، لذلك فإن حكومتي الإكوادور وبوليفيا تكافحان من أجل التوفيق بين أهدافهم لقيادة التغيير الاجتماعي وبين تدبير احتياجات البلاد المالية يوما بيوم من أجل متطلبات التنمية من الشركات الكبرى، الأمر الذي يجعل قضايا كاستخرج الموارد الطبيعية (الليثيوم في بوليفيا والبترول في الإكوادور)، من القضايا محل الجدل السياسية والمجتمعي. وعلى الرغم من هذه الصعوبات فإن "الحياة الطيبة" هو مفهوم ذو رؤية، وهو بوابة للحقبة المقبلة من التغيير الاجتماعي الكبير، تفتح الأعين على ما يمكن أن يكون ممكنا، ويضع الناس على طريق الوصول لفهم أكبر للإمكانات التي نمتلكها كبشر.
تظل أفكار كاقتصاديات السعادة، والاقتصاد الدائري، محاولات جادة ودؤوبة للخروج من مآزق الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي السائد، ربما لم يكتب لها النجاح الكامل بعد، وأظن أنها فرصة عظيمة لتقديم رؤى اقتصادية عملية بديلة نابعة من الرؤية المقاصدية والفلسفية الإسلامية للكون والحياة والإنسان، وإلا إن لم يكن وقت البحث عن البدائل هو أوان ذلك، فمتى يكون أوانه؟
للمزيد حول البوين فيفير طالع المصادر التالية:
دراسة صادرة على مؤسسة هاينريش بول شتيفتونج الألمانية:
https://www.boell.de/sites/default/files/Buen_Vivir_engl.pdf
مقال في الجارديان:
مقال بموقع تحالف باشاماما:
http://www.pachamama.org/blog/buen-vivir-new-era-great-social-change
