الأمانة الصحفية
مدحت نافع
الأمانة الصحفية
لا يصح أن تستمع إلى طرف واحد ثم تبني حكمك على ما سمعت. هكذا علمنا القرآن الكريم في قصص الأنبياء، وهكذا استقر رأى علماء المنطق والفلسفة عندما عددوا صور الخطأ في التفكير وذكروا منها سرعة إصدار الأحكام.
أزعم أن أصدقائي من مجال الإعلام المقروء والمرئي والمسموع هم النسبة الغالبة على الأصحاب والأصدقاء من سائر المشارب. بل إننى أحياناً أحصى نفسي بينهم وربما أحصاني بعض منظمي المؤتمرات منهم نظراً لحرصي على الكتابة الصحفية منذ ما يقرب من خمس وعشرين عاماً.
مع ذلك لم أسلم من اجتزاء البعض لتصريحاتى ونزعها من سياقها، سعياً خلف السبق الصحفي ولو على حساب خسارة المصدر الى الأبد! لا يضيرني أن أعقب وأرد ولكن في سياق صحيح غير مضطرب يظهر فيه اختلاف الآراء غير شائه ولا مؤسس على زيف وكذب حتى يكون التواصل الإعلامي مثمراً وليس مجرد مهرجان مقام على غرار مهرجانات الأحياء الشعبية التي لا يكاد أحد أن يسمع أحداً!
الأمانة الصحفية تتطلب نفساً غير مريضة تقدم الأخلاق والأعراف على المكاسب السريعة الزائلة، وعقلاً راجحاً يفاضل بين المزايا والمساوئ فترجح الكفة التى تحقق النفع العام والنفع الخاص أيضاً بغير طغيان.
علمنا منذ الصغر أن مدرسة التابعي الصحفية ومن ورائه أحمد بهاء الدين لا تشخصن القلم، ولا تحيله خنجراً يطعن الخصوم ويصفي الحسابات، وهو ما أتحراه على الدوام بل وأسعى الى تحرّيه في هذا المقال بحرص شديد، وما التفاتي إلى ما تعرضت شخصياً لضربات تحيد عن الأمانة الصحفية إلا على سبيل الإيضاح ودقة الشهادة ودون تفاصيل. هذا ما يجب أن يزرعه من بقي من أثر الصحافة المهنية في نفوس الصغار الذين يتطلعون إلى القدوة والمثل. هذا الذي يجب أن يسود من خلق ولو كسدت بضاعته حين من الدهر.
التوازن الذي يقيمه الإعلام في أى مجتمع أو العوج يمكن أن ترتقي به الأمم أو تنهار. الإعلام يلعب اليوم دوراً أهم من البيت والمدرسة، وهو يشكل الوعى العام بصورة مباشرة وغير مباشرة. الأثر التراكمي للتراشق والتلاسن على بعض الفضائيات قد حفر في الشخصية المصرية علامة لن تمحوها رسائل الفنان محمد صبحي المباشرة التلقينية في كثير من الأحيان والداعية إلى ثورة الأخلاق! والأثر التراكمي لبذاءات بعض المنتمين الى حقل "الرياضة" يحيلها من معنى نبيل يسمو بالنفس والروح إلى معركة خالية من القيم! لا تعجب إذن إذا ذهبت بابنك او ابنتك إلى تدريب الكرة أو السباحة مثلاً فوجدت هذا الأب يشتم ابنه ويهينه عياناً لأنه لم يحقق الفوز!! ولا تعجب إذا رأيت مباراة كرة تنقلب إلى مذبحة يقع فيها المئات.
كذلك فعل بعض تجار الدين الذين تصدروا المنابر في المساجد والفضائيات حينما أسسوا وشرعوا السب واللعن وأجازوهما تدليساً وكذباً على صاحب المقام المحمود الذي وصفه الله تعالى بأنه على خلق عظيم! كل ذلك يرسّخ التعصب في المجتمع، ينقله إلى مرتبة تعافها بعض الحيوانات بفطرتها السليمة. يخلق بيتاً تسوده الكراهية والعنف، ومدرسة لا تعلم إلا فساداً ولا تنتج إلا عناصر فاسدة، وفناً سمجاً بذيئاً يرقص فيه البطل بالسلاح الأبيض ومن ورائه ملايين السذج، وملعباً يضرب فيه الحكم ويتقاتل على حوافه المشجعون.
الأمانة الصحفية فرع من أصل الأمانات المختلفة التي أمر الله تعالى بها أن تؤدى إلى أهلها، فلا تضيعها وتضيع معها جمهوراً كبيراً من متابعيك فتشقى.
