شرخ في جدار "البوتقة" المصرية
رجائي فايد
شرخ في جدار "البوتقة" المصرية
كانت مصر على طول تاريخها جاذبة لمختلف الأقوام من جميع أرجاء العالم، ولسماحة وطيبة أهلها فإن كل من يفد على مصر ويقيم فيها، كان بعد فترة ينصهر فى سبيكة أهلها ليصبح واحد منهم، وكنا نفتخر بتلك الظاهرة الفريدة والتى أطلقنا عليها ظاهرة البوتقة المصرية، بل إن من أتاها غازيا محتلا، وبقى منه من بقى بعد خروج المحتل، فإنه قد انصهر فى تلك البوتقة الفريدة، حدث هذا مع الأتراك وحدث مع الفرنسيين وحدث مع الإنجليز، وأذكر واقعتين فى هذا الصدد، الأولى إبان دراستى الجامعية كنت أطبع مجلة للكلية فى إحدى المطابع الخاصة بمنطقة التوفيقية بالقاهرة، وكانت لهجة صاحب المطبعة وملامح وجهه لا يمكن أن تخطئها الأذن ولا العين فضلاّ عن اسمه (الخواجا ينى)، هو إما يونانى أو إيطالى، ودار بينى وبينه هذا الحوار:
ـ إنت منين ياخواجا ؟
نظر إلىّ بدهشة وهو يقول: من مصر يا خبيبى.
وعاودت السؤال: أعلم أنك من مصر لكنى أسأل عن أصلك ، وتحولت نظرة الدهشة إلى نظرة غاضبة مستنكرة وهو يقول: خبيبى أنا فلاخ من ميت غمر.
وعاودت السؤال عن الأصول، فزاد من غضبه وقال أجدادى من اليونان، لكن أنا مالى ومالهم أنا مصرى مثلى مثلك.
أما الواقعة الثانية فكانت منذ عدة سنوات عندما بدأت علاقتى بالمسألة الكردية، وبدأت بالبحث فى العلاقات التاريخية بين الشعبين المصرى والكردى، ووجدت أن من رواد الحركة التنويرية فى مصر بعض الرموز الذين لهم أصولا كردية، ومن هذه الرموز العائلة التيمورية (أحمد تيمور ومحمد تيمور وعائشة التيمورية ومحمود تيمور)، وعرفت أن هناك مسابقة سنوية فى التأليف المسرحى، تحمل اسم (محمد تيمور)، وتنظمها حفيدته الأستاذة رشيدة تيمور، وأجريت معها حوارا فى مسكنها بالجيزة، وأذكر جيدا أنها رفضت وبإصرار أن يكون الحوار معها على أساس أنها كردية، فهى مصرية حتى النخاع (بالمناسبة فأهم معجم للأمثال العامية المصرية هو للعلامة أحمد تيمور باشا)، وقدرت لها ذلك وتم الحوار حول الجائزة مع التعرض لأصولها الكردية والتى انصهرت فى البوتقة المصرية العظيمة، والتى كانت موضع اعتزازنا وتباهينا أمام دولا أخرى فى المنطقة، حيث تظل أصوله التاريخية تلاحقه وتجعله أحيانا مواطنا من الدرجة الثانية وربما تجرده من تلك المواطنة أصلا (حالة طائفة المكتومين فى سوريا، المواطنة والذين اعتبروا منذ بداية ستينات القرن الماضى متسللين من تركيا وتم سحب هوياتهم وحتى الآن هم محرومون من كافة حقوق المواطنة، وحالة الشاعر العربى العظيم محمد مهدى الجواهرى فى العراق والذى سحبت منه جنسيته بل واعتبر أعجميا لا لسبب سوى أن جدوده سجلوا أنفسهم من التبعية الإيرانية حتى لا يلتحقوا بالتجنيد فى الجيش العثمانى ....وآخرين).
ولو بحثنا فى أحوال دول أخرى لوجدنا الحالات المشابهة، فتلك الدول لا تمتلك ظاهرة البوتقة التى كانت تمتلكها مصر، وأقف عند كلمة كانت، كى أصل إلى ما أريد، اتصل بى صديق من إقليم كردستان العراق يسألنى (هل هناك فى مصر رابطة تحمل اسم "رابطة الأكراد فى مصر" ) وأجبت بالنفى، فيما بعد تواصل معى صديق كردى طالبا رقم هاتفى بناء على طلب أخ مصرى قدم نفسه على أنه مسؤول تلك الرابطة، فيما بعد علمت أن هناك دعوة لاحتفالية بهذا الشأن ورفضت المشاركة فيها، ووجدت على مواقع التواصل الاجتماعى تسجيلات لتلك الاحتفالية وكلمات المشاركين فيها، والذين يتحدثون عن كرديتهم وأهمية الترابط بينهم فى السراء والضراء، وانتابنى شعور غريب، وسألت نفسى ماذا جرى للبوتقة المصرية، وتذكرت الخواجا ينى والذى غضب عندما سألته عن أصوله (خبيبى أنا فلاخ من ميت غمر) وتذكرت الأستاذة رشيده تيمور والتى رفضت أن يكون حوارى معها خاصا بأصلها الكردى.
ومما لاشك فيه أن شرخا أصاب جدار هذه البوتقة والتى كانت على الدوام مبعث اعتزازنا، ومن المهم أن نتضافر جميعا فى البحث عن الأسباب التى أدت إلى ظهور هذا الشرخ، إذ أننى أخشى إن تضاعف هذا الشرخ، أن يبحث كثير ممن كانوا ضمن سبيكة الوطن عن أصول قديمة يستظلون بها، وعندها، ولن أكمل، ولننظر حولنا، لابد من العمل بسرعة على ترميم جدار البوتقة قبل فوات الأوان.
