بعد أن تحول غضب الجزائريين إلى مطالبة برحيل كل رموز النظام السابق، وترديد المتظاهرين لشعارات تستهدف بشكل مباشر قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح ، قام الرجل القوي الذي يعد هو الآخر من بين شخصيات النظام باعتقال مسئولين كبار محسوبين على نظام عبد العزيز بوتفليقة.. فهل يتمكن صالح من “انقاذ رأسه” ؟ وهل تندرج الاعتقالات في إطار تصفية حسابات أم فقط لتهدئة الاحتجاجات؟.
كانت الشعارات التي رفعها المتظاهرون مؤخرا، بالغة الدلالة، عندما كرّروا "الجيش ديالنا (مِلكنا) والقايد خاننا)، و"القايد صالح.. إرحل"، فيما معناه أن هناك إصرارًا بين فئات من المحتجين على التصعيد.
الجزائر: المحتجون يرفضون الانتخابات ويطالبون بجمهورية ثانية تقودها شخصيات وطنية#حراك_19_افريل
— DW عربية (@dw_arabic) April 19, 2019
#Algerie #الجزائر pic.twitter.com/YhUiEShVju
إلا انه بعد أيام من اعلان صالح، أنه سيتم "تطهير البلاد نهائيًا من الفساد والمفسدين"، والكشف عن ملفات فساد كبيرة، اعتقل شقيق الرئيس السابق سعيد بوتفليقة والجنرالان السابقان محمد مدين (توفيق) وبشير طرطاق .
وفي خطاب سابق، شنّ الفريق قايد صالح هجومًا حادًا على "الجنرال توفيق"، واتهمه بـ"التنسيق مع جهات مشبوهة تهدف إلى دفع البلاد إلى فراغ دستوري، وعرقلة مقترحات الجيش لحل الأزمة القائمة". كما هدّده بالسجن مرتين على الأقل.
وقال في كلمة يوم 16 أبريل الماضي: "لقد تطرقت في مداخلتي يوم 30 مارس 2019 إلى الاجتماعات المشبوهة التي تُعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب ومن أجل عرقلة مساعي الجيش الوطني الشعبي ومقترحاته لحل الأزمة، إلا أن بعض هذه الأطراف وفي مقدمتها رئيس دائرة الاستعلام والأمن السابق، خرجت تحاول عبثًا نفي تواجدها في هذه الاجتماعات ومغالطة الرأي العام، رغم وجود أدلة قطعية تثبت هذه الوقائع المغرضة".
كما تحدّث قايد صالح عن "العصابة" التي سيطرت على الرئاسة قبل استقالة بوتفليقة، في إشارة إلى شقيقه سعيد، الذي يتردد أنه "الحاكم الفعلي للبلاد" منذ تعرّض الرئيس المُستقيل لجلطة دماغية أقعدته على كرسي مُتحرك منذ عام 2013.
"الرجل القوي" ينقذ رأسه
قالت صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية أن الرجل القوي في الجزائر الجنرال أحمد قائد صالح، يحاول أيضاً من خلال “قطع هذه الرؤوس”، تقديم ضمانات لشارع يزداد حدة في المنطق المطالب برحيل كل رموز النظام السابق.
ويجد الجنرال قايد صالح نفسه اليوم، أمام وضعية بالغة الحساسية، فهو يرغب في تجنب الغضب الشعبي، مع محاولته في الوقت نفسه التمسك بخريطة الطريق المتعلقة بالمرحلة الانتقالية والتي يرفضها المتظاهرون بشكل قاطع.
واعتبرت “لوفيغارو” أن “لعبة التوازن الصعبة” التي تدفع أحمد قايد صلاح في بعض الأحيان إلى اتخاذ قرارات صعبة، من المفارقة أنها تزيد من حدة ضغط الشارع على هذا الأخير.
فسيكون من “السذاجة الاعتقاد بأن تغيير الأشخاص هو الحل وأن استبدالهم بآخرين صادقين وملتزمين سيضمن آمال الحراك، كما يقول رئيس الحكومة السابق مولود حمروش.
والسبب في ذلك، توضح “لوفيغارو”؛ هو أن الجزائريين باتوا أكثر إصراراً وصرامةً في مطالبهم. فبالإضافة إلى المطالبة برحيل رموز النظام، فإنهم يدعون إلى إقامة دولة قانون أولاً، قبل البدء في الملاحقات القانونية.
لا سيما وأن خيار الانتخابات الرئاسية في 4 من يوليو المقبل يبدو أكثر وضوحا، رؤساء البلديات والقضاة يرفضون تأطير هذه الانتخابات ولا يمكن لأي مسئول، بدءاً بوزراء حكومة نور الدين بدوي، أن يقوم بزيارة أو جولة عمومية دون أن يتعرض لصيحات الاستهجان والشتم ويتم طرده من قبل الشعب.
وحتى عمليات سحب الاستمارات الخاصة بالترشح إلى الانتخابات الرئاسية، فإنها تتم في سرية تامة.
ويحاول قايد صالح طمأنة المحتجين بتأكيده في خطبه تمسكه بـ"الدستور"، وأن تغيير بنود الدستور ليست من صلاحياته، بل من صلاحيات "الرئيس المنتخب مستقبلاً وفقا للإرادة الشعبية الحرة".
لكن ماضي الجزائر مع الانتخابات، يوّضح كيف أن البلاد أديرت أكثر من مرة في الخفاء من حكام الظل بينما تحوّلت الانتخابات الرئاسية في مراحل كثيرة إلى شكل صوري.
ما الذي يخفيه توقيف الـ"عصابة"؟
واعتبرت مجلة “لوبوان” لفرنسية أن توقيف سعيد بوتفليقة، المتهم بجملة أشياء منها الاستيلاء على وظيفة شقيقه عبد العزيز بوتفليقة الذي أضعفه المرض منذ عام 2013؛ يندرج في إطار رغبة صالح في الاستجابة لمطالب المتظاهرين الذين يحتجون في جميع أنحاء البلاد منذ 22 فبراير الماضي في حراك اجتماعي سلمي أشاد به كل المراقبين.
وشددت “لوبوان” على أن هذه الخطوة تستجيب فقط لمطالب جزء من المتظاهرين؛ لأن غضب الجزائريين تحول في الأسابيع الأخيرة إلى مطالبة راديكالية برحيل كل رموز النظام السابق، لم تعد تستثي قائد الجيش نفسه.
كما اعتبرت المجلة أن توقيف سعيد بوتفليقة، يعكس مدى هشاشة عائلة الرئيس المعزول والتي عاشت صدمة مماثلة عام 1979 ، عندما تم طرد عائلة بوتفليقة من الجزائر ليدفعوا ثمن كون شقيقهم الأكبر، الضحية الرئيسية لمرحلة ما بعد رحيل الهواري بومدين.
أما بخصوص الجنرال توفيق، فمحاكمته كانت منتظرة نوعاً ما بعد أن أشار إليه قايد صالح بشكل واضح في خطاب يوم 16 أبريل الماضي، عندما وجه له "إنذاراً أخيرا"، واتهمه بالمساهمة في تنظيم "اجتماعات مشبوهة تهدف للتآمر على مطالب الشعب"، قبل أن يهدده بـ"إجراءات قانونية صارمة".
ورغم إحالته على التقاعد عام 2015، إلّا أن الكثير من التقارير تؤكد استمرار نفوذ الجنرال توفيق في جهاز الاستخبارات، خاصة أن الجنرال ذاته كان من أكبر المؤثرين في القرار الداخلي للجزائر طوال عقود ، بحسب "دويتشه فيليه".
يتشابه مسار طرطاق مع خلفه، فقد كان الرجل الثاني في الاستخبارات قبل إحالة الجنرال توفيق على التقاعد، وكان كذلك من الوجوه الأمنية خلال العشرية السوداء، قبل أن يرتقي ويترأس الاستخبارات ويتحول كذلك إلى مستشار أمني لرئاسة الدولة، إلى غاية إقالته أياماً قليلة بعد استقالة بوتفليقة.
ويُعتقد أن محاكمته جاءت بعد "الاجتماعات المشبوهة" السالفة الذكر، إذ ذكرت تقارير إعلامية محلية أن الاجتماع حضره السعيد بوتفليقة وطرطاق وتوفيق.
مسرحية "قايد" الجيش
وأوضح موقع “الجزائر تايمز” الاثنين ، انه وبعد ساعات من الكشف عن اعتقال السعيد بوتفليقة وبعض الوجوه البارزة المنتمين لما يسمى بـ "العصابة"، ظهرت بعض المعطيات التي تشير إلى تورط الجيش الجزائري وبالتحديد قايد صالح في حبك "مسرحية" فاشلة بدعوى محاربة الفساد.
وقال الموقع في كلامه الموجه إلى قايد صالح بأن هذا الأخير وبعد مسرحية الحرب على الفساد واعتقال أفراد العصابة التي يتزعمها في الأصل يجب عليه نقل السلطة سريعا إلى الشعب.
وكتب الموقع الجزائري: “يجب على قايد صالح نقل السلطة سريعا إلى الشعب”، مضيفا: “فبعد المظاهرات التي شهدتها البلاد وأدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة فقط العملية السياسية الموثوق بها والشاملة بإمكانها أن تلبّي تطلّعات الشعب الجزائري وأن تؤدي إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تحتاج إليها البلاد ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ من خلال تسليم السلطة سريعاً لحكومة انتقالية مدنيّة”.
وأضاف الموقع: “ثانيا يا قايد صالح المظاهرات لن تتوقف حتى الإسقاط الكامل للنظام بكل مكوناته الشمولية ورموزه الفاسدة فالمظاهرات ستستمر حتى يتم تسليم السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية وفقا لدساتير التي ترتضيها جماهير شعبنا العظيم وميثاقا لثورتنا الثانية المباركة كما نؤكد على ضرورة التحفظ على كافة رموز السلطة الماضية من المتورطين في جرائم ضد الشعب إلى حين عرضهم على محاكمات عادلة وعلنية وسطر لي على علنية، وليكن في علمك يا قايد صالح لن نتراجع ولن نحيد عن أهداف المظاهرات وتطلعات شعبنا الواضحة والمحددة والمشروعة في الحرية والسلام والعدالة كما ندعوا الأحرار الجزائريين للتظاهر أمام مقر وزارة الدفاع وأمام مقر القيادة العامة للجيش لتكون الرسالة واضحة للقايد صالح “.
استفراد بالحكم؟
ضمّ قايد صالح المديريات التي كان يديرها الجنرال طرطاق إلى وزارة الدفاع مباشرة بعد إقالة هذا الأخير، ممّا يطرح استنتاجات بأن قائد الجيش يرغب بسيطرة تامة على جهاز الاستخبارات.
ووسط كل أقطاب النظام، ظهر قايد صالح هو الأقوى خلال هذه الفترة الحساسة من تاريخ الجزائر، سواءٌ عبر خطبه التي استخدمت في البداية شماعة الاستقرار قبل المرور إلى مغازلة المحتجين، أو عبر كلّ هذه المحاكمات التي يعتقد أنها لم تكن لتبدأ لولا موافقة من قائد الجيش.
ولم تتوقف المحاكمات عند الشخصيات الثلاث، فأحمد أويحيى، رئيس الوزراء السابق، وجمال ولد عباس، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، وسعيد بركات، وزير الصحة الأسبق، ومحمد لوكال، وزير المالية الحالي، وشكيب خليل، وزير الطاقة الأسبق، كلهم يواجهون تهما متعددة حول شبهات فساد مالي ، بحسب"دويتشه فيليه".
المحاكمات المالية وصلت كذلك إلى عدد من رجال الأعمال، فقد اعتُقل علي حداد، الصديق المقرّب للسعيد بوتقليقة، ورئيس منتدى رؤساء المؤسسات، وكذلك اعتُقل الأشقاء الثلاث كونيناف، ولم تستثنِ الاعتقالات حتى يسعد ربراب، أغنى رجل في الجزائر، رغم خروجه في المظاهرات ضد بوتفليقة.
كما عاد مدير الشرطة السابق، عبد الغني هامل، إلى الواجهة، لأول مرة منذ إقالته عام 2018، بعد بدء محاكمته رفقة نجله، فضلاً عن مسؤولين آخرين.
هكذا يسود تخوّف من استغلال قايد صالح للحراك الشعبي لأجل إزاحة خصومه، خاصةً أن الجزائر لا تتوفر حالياً على أيّ شخصية في مقاليد القرار بحجم قوة قائد الجيش، فالشارع يرفض تماماً استمرار عبد القادر بن صالح رئيساً مؤقتاً للبلاد، والأحزاب الموالية للنظام تعيش أياماً صعبة، والمعارضة في البرلمان لم تنجح في تقديم شخصية تحشد الإجماع، والشارع لم يتوحد على اسم واحد، وجهاز الأمن لا يزال يعيش على أثر التغييرات العديدة التي وقعت في رئاسته خلال المدة الأخيرة.