في يوليو 2019، تداولت وسائل إعلام عالمية عرضا لأحد تقارير الكونجرس الأمريكي الأخيرة عن الوضع الأمني والاستقرار في أفغانستان.
وطبقًا لهذا التقرير، قالت وزارة الدفاع الأمريکیة: إن "جمهورية إيران الإسلامية تقدم مساعدات سياسية وعسكرية لمقاتلي حركة طالبان، من خلال فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي، في الوقت الذي تسعى فیه واشنطن لتحقيق الاستقرار في أفغانستان".
وقد تم نشر هذا التقرير لأول مرة في شهر یونیو الماضي، تحت عنوان "تعزيز الأمن والاستقرار في أفغانستان"، وجاء فيه: "لطالما لعبت إيران دورًا فعالًا في مساعدة مقاتلي طالبان، للحفاظ على نفوذها لدی هذه الحركة، وأن تحقق أهدافها، دون تقویة طالبان لدرجة تمکنها من تغيير التوازن الاستراتيجي والعودة إلى السلطة".
قد تكون العبارة الأخيرة التي وردت بالتقرير هي أفضل وصف للعلاقة بين إيران الشيعية و"طالبان" السنية، وهي العلاقة التي نسجت تحت وطأة القلق الإيراني من أفغانستان المجاورة، التي لا تزال تشهد تواجدا عسكريا أمريكيا مباشرا، وما يزيد من تعقيد المشهد هو أن خصوم إيران الأبرز في المنطقة، باكستان والسعودية بات لهما موطأ نفوذ سياسي لا يمكن إنكاره هناك.
نفوذ سعودي باكستاني
وعلى الرغم من أن الوجود الأمريكي الموسع في أفغانستان لم يضايق الزعماء الإيرانيين، إلا أن النفوذ الباكستاني والسعودي المتنامي في البلد أزعجهم بشكل أكبر.
وشعر المسؤولون الإيرانيون بالقلق إزاء محاولات باكستان المتكررة، قبل وبعد الغزو السوفيتي عام 1979، لتثبيت الحكومات التي يهيمن عليها البشتون في كابول.
وتعتمد باكستان على المساعدات المقدمة من السعودية، وتوجه المصالح السعودية في المنطقة من خلال رعاية الجماعات السلفية المتشددة، وتقديم الدعم السري للمتمردين العنيفين العاملين في مقاطعة "سيستان وبلوشستان" الإيرانية، وربما الأهم من ذلك، إثارة الفصائل المعادية لإيران داخل "طالبان".
وبشكل أكثر وضوحا، تخشى طهران أن تستغل المملكة العربية السعودية التقلبات في أفغانستان لتنمية وكلاء لها على الجهة الشرقية لإيران.
ورغم أن واشنطن وطهران تتصارعان في أماكن أخرى كثيرة، إلا أن مصالحهما ليست كذلك في أفغانستان.
ولا تريد إيران أن تجعل جارتها الشرقية ساحة نزاع بينها وبين الولايات المتحدة.
ويرى المحلل السياسي الإيراني ومدير مركز أبحاث "ديسرت" للاستشارات، "ماهان عابدين"، أن إيران لن تستهدف القواعد والقوات الأمريكية في أفغانستان حتى في حالة تصاعد الأعمال القتالية في الخليج، لأن ذلك سيضمن استمرار الاضطرابات والتقلبات على الحدود الشرقية لإيران لأعوام قادمة.
حتمية العلاقة مع "طالبان"
ويضيف "عابدين"، في تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، قبل أيام، أن صانعو السياسة في إيران يريدون الآن أن تغادر القوات الأمريكية لأفغانستان، لأنهم مقتنعون بأنه يمكن الآن إدارة الوضع في البلاد بطريقة دبلوماسية.
وكلما وضعت إيران الاستقرار في صميم استراتيجيتها لأفغانستان، زاد ذلك من تحسين العلاقات مع عدوها السابق، "طالبان"، ومثل الولايات المتحدة، أصبحت إيران تقبل حقيقة أن استيعاب "طالبان" هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل أكثر سلمية في جارتها أفغانستان.
وبالفعل، وبعد قرار الحكومة الأمريكية في أبريل 2019 بتقليل وجودها العسكري في أفغانستان، بدأت جمهورية إيران الإسلامية جهودها "للتوسط من أجل السلام بين طالبان والحكومة الأفغانية".
وتعددت زيارات وفود من "طالبان" إلى إيران، خلال الأشهر الماضية، من أجل الانخراط في مفاوضات هناك حول كيفية التعامل بين الحركة والحكومة الأفغانية، وكان أحدث تلك الزيارات هي تلك التي تمت بعد انهيار مفاوضات السلام بين "طالبان" والولايات المتحدة، وهو ما كان مثار قلق سعودي وامتعاض باكستاني.
وتعد إيران حاليًا أكبر شريك تجاري وثقافي لأفغانستان، ومعظم نفوذها يتركز في الأجزاء الغربية والوسطى والشمالية هناك، بسبب الانتماءات الدينية والثقافية والعرقية.
واللغة الوطنية الإيرانية، الفارسية، منتشرة على نطاق واسع في أفغانستان، مع اللغة "الدرية" المحلية ولهجات أخرى.
ويتابع الإيرانيون والأفغان نفس الأدب والتلفزيون والموسيقى.
وكانت "هرات"، أكبر مدينة في غرب أفغانستان، جزءا من إيران حتى القرن التاسع عشر، وتحتل مكانة تاريخية في الثقافة الفارسية.
إصرار باكستان
وبعد انتهاء حقبة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، بدأت باكستان محاولات لتثبيت حكومات يهيمن عليها مجموعة البشتون العرقية في البلاد، وهي المجموعة السنية التي ينحدر معظم أعضاء وقيادات "طالبان" منها، وهو ما زاد من قلق إيران.
وبالفعل تولت "طالبان" تسيير أمور البلاد في أفغانستان حتى الغزو الأمريكي لها عام 2001، وعندما أطاح الأمريكيون بالحركة، توقع القادة الإيرانيون أن يقل تأثير باكستان داخل منظومة السياسة الأفغانية.
وبدلا من ذلك، واستمرارا لإحباط طهران، استمر نفوذ إسلام أباد إلى حد ما بلا هوادة، وتسبب هذا النفوذ في تباعد بين باكستان والولايات المتحدة، لكن الأولى لم تتنازل أبدا عن مسألة زيادة نفوذها في أفغانستان.
وقد دفع هذا الإصرار باكستان إلى التمسك بـ"طالبان" حتى بعد الإطاحة بالمجموعة، وحتى في مواجهة الانتقادات الدولية بهذا الشأن.
ومع أخذ ذلك في الاعتبار، تدعم إيران انسحاب القوات الأمريكية، حتى لو كان ذلك يعني إعادة تمكين "طالبان".
ولكن مهما كان شكل الحكومة في كابول، تدرك طهران أن "طالبان" وداعميها في باكستان سيظلون ممثلين رئيسيين في أفغانستان.
وإذا أرادت إيران أن تظل وثيقة الصلة بالبلاد، وأن تقلل من النفوذ الباكستاني، فعليها أيضا أن تكسب الصلة مع "طالبان".
خلاصة الأمر، هو أن طهران باتت تعلم أن "طالبان" هي طرف لم يعد يمكن تحاهله أو تقزيمه عسكريا وسياسيا في أفغانستان، وهو الخلاصة التي توصلت إليها أطراف أخرى مثل باكستان والسعودية والولايات المتحدة ذاتها.
من هنا، فإن حرص طهران على علاقة جيدة مع "طالبان"، هو أولوية سياسية وأمنية، لكن من الناحية الأخرى لا يبدو أن إيران مستعدة لأن تلتهم "طالبان" الكعكة بالكامل في أفغانستان، وبدلا من ذلك ستحاول طهران الحفاظ على توازن بين "طالبان" والحكومة الأفغانية.