قبل 5 أعوام فر "مهند" وهو ابن العشرة أعوام مع أسرته من جحيم الحرب في سوريا، تاركا قريته ورفقاء مدرسته الذين يرقد بعضهم تحت ركام منازلهم التي قذفتها طائرات جيش نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
الفرار من سوريا كان عسيرا على مهند كما كانت الحياة فيها تحت قذائف جيش النظام التي أزهقت أراوح بعض أقاربه، هرب ومن تبقى من أسرته إلى مصر لينعموا في رغد العيش، ولكن الحظ الذي أنقذهم من ويلات الحرب جعلهم يتعثرون في أوراق الإقامة التي حالت دون تمتعهم بأبسط حقوقهم في الحياة.
" كانت مدرستي جميلة وكبيرة وكنت أحب رفقائي وألعب معهم، ولكن كان هناك قصف وهجوم من قوات النظام على الحي الذي أسكن فيه، كنا نشعر بالرعب، فاضطررنا أن نغادر سوريا ونأتي إلى مصر"، هكذا يروي لنا مهند.
مهند وغيره من الأطفال السوريين الذين فروا من بلادهم، تعثروا في عقبات كادت تجرهم إلى "الأمية" لما وجدوه من صعوبة في الاندماج بالمدارس المصرية، لولا أنهم تغلبوا عليها بإنشاء "المدارس السورية".
وكانت أبرز الصعوبات التي واجهت الأطفال السوريين ضياع العام الدراسي بسبب بطء استخراج أوراق الإقامة، أو لعدم فهم لكنة المعلميين المصريين وتكدس الفصول بالطلاب، وشعور الطلاب بالاغتراب وسط زملائهم المصريين.
فحين أراد مهند الالتحاق بالمدرسة بعد استقرار أسرته في مصر، قابلته صعوبة في استخراج أوراق الإقامة أو ما يعرف بـ "الكارت الأصفر"، وحتى أن نجحت الأسرة في استخراجه كان العام الدراسي قد ضاع على الصبي الصغير، حسبما يروي ـ
ووفقا للقانون فإنه على اللاجئين تجديد أوراق الإقامة كل عام في شهر أكتوبر، ولكن بسبب بطء استخراج الأوراق التي تستغرق نحو 4 أشهر كان عام دراسي تلو الآخر يضيع على "مهند" حتى خسر 5 أعوام دراسية لم يتمكن خلالهم الالتحاق بالمدارس المصرية.
ولم يكن هناك سبيل أمام مهند لاستكمال تعليمه سوى "المدارس السورية"، التي أعادت إليه بعض من تلك الأجواء التي كان يعشها في سوريا، كما أن مدير المدرسة وعده بأنه سيقدم أوراقه إلى الحكومة المصرية ليحصل على الشهادة الرسمية بعد إجراء اختبارات تحديد مستوى الطالب.
وبجوار مهند يجلس محمد الذي يماثله في العمر التقط طرف الحديث قائلا" أنا سجلت في المدارس المصري، ولكن الفصول مزدحمة جدا ولا أفهم شيء من المعلم لاختلاف لهجته، أما هنا في المدرسة أحسن وأسهل لأن المعلم سوري، وأشعر وكأنني في مدرستي بسوريا".
وكان صدر قرار جمهوري استثنائي في عام 2012 بالسماح للطلاب السوريين بالتسجيل في المدارس العامة المصرية، وبحسب تصريحات غادي والي وزيرة التضامن الاجتماعي يوجد نحو 40 ألف طالب سوري مسجل في المدارس المصرية.
ولم يكن الأطفال السوريين الذين التحقوا بالمدارس المصرية بمفازة من الصعوبات، فكان الأقصى عليهم هو تعرض بعضهم للعنف والضرب، تماما كما يحدث مع الأطفال المصريين في بعض المدارس، رغم قرار وزارة التربية والتعليم بمنع الضرب في المدارس.
وبحسب "نور" المعلمة السورية بمدرسة سوريا الغد، فإن بعض المدارس المصرية تلجأ إلى ضرب الاطفال بهدف تحسين مستواهم العلمي، دون مرعاة لحالتهم النفسية التي يعانون منها جراء الحرب.
تقول نور لـ "مصر العربية" إن الأطفال السوريين حين يستمعون إلى أصوات ألعاب المفرقعات المنتشرة في شوارع القاهرة يرتجفون رعبا، يتذكرون أهوال الحرب في سوريا.
وتضيف إنه بعد عام ونصف ظل فيه الأطفال تحت الحصار في سوريا، لاذوا بمصر باحثين عن الآمان، ولكن بعضهم اصطدم بالعنف في المدرسة ما جعلهم ينفرون من التعليم، حسبما تخبرنا نور.
ليس الأطفال وحدهم من تخفيهم الأصوات المرتفعة "نحن أيضا الكبار نرتعب من أصوات الطائرات"، هكذا تقول نور مضيفة " لذلك الأطفال يحتاجون إلى معاملة خاصة، فمنهم الأيتام والمعاقيين ومنهم من فقد النطق بسبب ما رآه في الحرب".
وتشهد سوريا حرب أهلية منذ أكثر من ست سنوات، راح ضحيتها أكثر من 340 ألف قتيلا بينهم أكثر من 100 ألف مدني، وفق حصيلة جديدة للمرصد السوري لحقوق الإنسان صدرت في نوفمبر 2017.
ولم يقف السوريين مكتوفي الأيدي أمام صعوبة تعليم أطفالهم، فلجأوا إلى إنشاء مدارس سورية خالصة، يعتبرونها بمثابة بيت آمن لأطفالهم ولكوادرهم، وهكذا نجحوا في إنشاء بيئة سورية من قلب الغربة.
في الثامنة من صباح كل يوم تتوافد الفتيات السوريات والأطفال الصغار إلى المدراس السوري، يتراصون وراء بعضهم البعض في طابور الصباح يرددون الأناشيد الوطنية بلهجتهم الدمشقية التي تعيد إليهم روح الوطن المفقودة، ثم ينصرفون إلى الفصول التعليمية.
وفي الظهيرة ينصرف طلاب الفترة الصباحية وبعدها يتوافد الصبية من مختلف المراحل، فتمتلأ المدرسة بضجيج أصواتهم وهم يضحكون ويتمازحون ويلعبون، قبل أن ينصرف كل منهم إلى الدراسة.
بدأت المدارس السورية في عام 2012 بـ "شقة" صغيرة كانت بمثابة "حضانة" أنشأتها "فاتن عبد اللطيف"، حسبما ترويلـ "مصر العربية"، عقب وصولها وأطفالها إلى مصر بعدما نجحت في الهروب من قذائف الحرب في سوريا، لتعلم فيها أطفالها ورفقائهم السوريين.
وما لبثت أشهر قليلة حتى تزايد إقبال السوريين على الحضانة، فجال في خاطر "عبد اللطيف" توسيع مشروعها إلى مركز تعليمي لتدريس المناهج المصرية للطلاب السوريين بمختلف المراحل التعليمية، وهكذا انتقلت من "شقة" إلى "فيلا" حولتها إلى "مدرسة" موازية للمدارس المصرية.
ومع تزايد أعداد الطلاب لتصل إلى أكثر من 350 طالبا في أول عام بمدرسة "الأوائل السورية" نقلت عبد اللطيف نشاطها من "فيلا" إلى عقار مكون من 5 طوابق" في المجاورة السابعة بالحي الأول بـ6 أكتوبر، وألحقتها بمساحة أخرى خالية جعلت منها "فناء" للمدرسة لـ"الفسحة".
حين تذهب إلى مقر "مدرسة الأوائل السورية" لم تجد ما يدل عليها سوى ضجيج الأطفال المنبعث من منافذ العقار الذي يبدو من الخارج مجرد منزلا سكنيا، لتختلف الصورة تماما من الداخل فهو مقسم إلى فصول لكل المراحل التعليمية بداية من رياض الأطفال حتى الثانوية العامة.
ورغم أن المدارس السوري نجحت في جذب طلاب مصريين أيضا، إلا أنها لا تمنح شهادة رسمية للطالب، لأنها تخالف القانون المصري الذي لا يمنح اللاجئين تراخيص ببناء مدارس.
ولكن لم يقف أصحاب هذه المشاريع الاستثمارية من السوريين أمام عقبة القانون، فلجأوا إلى عقد اتفاقيات إما مع مدارس مصرية خاصة أو جمعيات مُشهرة، لها الحق في إنشاء مراكز تعليمية، ثم تحويلها إلى "مدارس سورية خالصة بداية من الإدارة حتى المعلمين والطلاب.
وتقول مديرة مدرسة الأوائل السورية، إنها تعمل تحت ظهير مؤسسي بترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية، وتسعى جاهدة للعمل بشكل رسمي، فهي تلتزم بتدريس المناهج المصرية ولكن باللهجة السورية.
وأشارت إلى أنهم يعتمدون في تعليم الأطفال على طريقة خاصة تعيد إليهم حب التعليم، وهي "اللعب الهادف والتسلية والأنشطة العملية"، مستطردة " الحاجة لتعليم الأطفال بطريقة شيقة تهون عليهم مأساة الغربة والحرب هي التي دفعتهم لإنشاء المدارس السورية وذللت كل العقبات".
وفي الحي الأول بمدينة 6 أكتوبر توجد مدرسة جسور العلم السورية، التي بدأت بـ "شقة" – وحدة سكنية صغيرة - في عام 2012، و أصبحت الآن "فيلا" تضم آلاف الطلاب من مختلف المراحل التعليمية .
ويقول هاني إبراهيم حصاص، مدير مدرسة جسور العلم السورية، إن الأطفال السوريين الذين فروا من بلادهم قهرا بسبب ظروف الحرب، واجهوا مشاكل عديدة في الالتحاق بالمدارس المصرية بسبب بطء إجراءات استخراج أوراق الإقامة مما يضيع عليهم عام دراسي بأكمله.
وأضاف حصاص :"نحن نتعذب حتى نسجل بالمفوضية، ورغم أن هناك تسهيلات بالإدارة المصرية للسوريين ولكن تأخر استخراج الأوراق يتسبب في عدم تسجيل الطلاب بالمدارس".
وتابع "لدينا حالات كثيرة بسبب جهل ولي الأمر بالنظام المصري في التعليم، لم تسجل أسماء أبنائها بالمدارس المصرية، واكتفت بحضورهم في المدارس السوري"، موضحا أن هؤلاء يتم التنسيق مع بعض المدارس الرسمية لقبول أوراقهم بعد تحديد مستوى الطالب والمرحلة الدراسية التي تناسبه.
لفت مدير المدرسة إلى أنه هناك رجال أعمال مصريون وسوريون يدعمون المدارس السورية ماديا، كما أنها تتحصل على مبالغ مالية رمزية سنويا من أسر الطلاب المقيدين بها، مع مراعاة الظروف الاقتصادية لبعض الطلاب بالتدريس لهم مجانا.
وبيّن أن المدارس السوري تدرس المناهج المصرية ولكن بكوادر سورية، وأنه هناك اتفاق مع بعض المدارس الخاصة المصرية للسماح للطلاب بأداء امتحانات نهاية العام الدراسي بها للحصول على الشهادة.
وأشار إلى أنه مع تزايد أعداد المدارس السورية أصبح هناك ندرة في أعداد المعلمين السوريين، لذلك تم الاستعانة ببعض الكوادر المصرية خاصة في مرحلة رياض الأطفال والابتدائية ومواد التاريخ في جميع المراحل الدراسية.
ووصل عدد المدارس السورية إلى 20 مدرسة في 6 أكتوبر و10 مدارس في العبور والحي العاشر، و3 مدارس في مدينة نصر، تستوعب كل منها نحو 3 آلاف طالب .
وداخل فصل دراسي بأحد المدارس السورية بحي 6 أكتوبر، وقف المعلم محمد القلعاني، يقدم إلى مجموعة من طلاب المرحلة الإعدادية درسا في الرياضيات بلهجة بلادهم الدمشقية، وكأنهم يستمدون من بعضهم البعض روح الحفاظ على هويتهم ولهجتهم السورية حتى لا تضيع كما أضاعت بلادهم الحرب.
تتعلق أعين التلاميذ على السبورة ينصتون جيدا للمعلم الذي يحاول إلى جانب تدريسهم المناهج المصرية، أن يغرس فيهم حس المجتمع السوري، ويخفف عنهم آلام الغربة عن وطن محفوظ في قلوبهم.
ويقول القلعاني"التعليم هو أكثر الأشياء أهمية بالنسبة لنا، لذلك فإن المدارس السورية ستجعل التعليم عملية سهلة على الطالب، لأن المعلم السوري الذي يتحدث بنفس لهجته ومن بلدته هو الأقرب إليه".
كان القلعاني يدرس الرياضيات في بلاده قبل أن يرحل عنها قهرا بسبب الحرب، ولم يجد اختلافا كثيرا في التدريس بين البلدين سوى الرموز الرياضية التي تدرس في سوريا بالغة اللاتينية وفي مصر بالعربية، وطريقة توزيع المناهج التعليمية على المراحل الدراسية.
أكثر ما عانى منه القلعاني في التدريس بمصر هو بعض الطلاب السوريين الذين انقطعوا عن الدراسة لفترات طويلة منذ رحيلهم عن بلادهم، فهؤلاء يحتاج إلى معاملتهم بشكل خاص حيث يبدأ معهم من البداية وكأنهم في مرحلة رياض الأطفال.