في مهدها.. هل ماتت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة؟

شاب فلسطيني

"في 1969.. جولدا مائير: حين حُرق المسجد الأقصى لم أنم طوال الليل ظنًا بأنّني في الصباح سأجد جيوش العرب قد هاجمتنا من كل حدب وصوب، فلما استيقظت علمت أنّهم نائمون".

 

"في 2017.. نيكي هيلي: كنا ننتظر رد فعل عنيفًا من العرب والمسلمين بشأن قرار ترامب.. كما قال الجميع بأنّ السماء سوف تقع على الأرض بعد هذا القرار، وها هو الخميس قد مر والجمعة والسبت والأحد والسماء لا تزال في مكانها".

 

بين التصريحين، الإسرائيلي والأمريكي، مرّت 48 عامًا، جاءت شاهدةً على نكستين للعرب والمسلمين، صنعتهما إسرائيل ومن ورائها أمريكا، بدأ الأول بإحراق المسجد الأقصى واختتم بإعلان القدس عاصمة يهودية لكيان محتل، اغتصب الأرض والعِرض.

 

من هول القرار الأمريكي الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب الأربعاء قبل الماضي، بنقل عاصمة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة وإعلانها عاصمةً لإسرائيل، كان متوقعًا أن تندلع انتفاضة فلسطينية ثالثة.

 

في عام 1987 اندلعت الانتفاضة الأولى، وهي عُرفت بـ"انتفاضة الحجارة"، وتوقفت بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، بينما اندلعت الانتفاضة الثانية في العام 2000، وتوقفت فعليًا في الثامن من فبراير 2005 بعد اتفاق الهدنة الذي أبرم بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرئيل شارون.

 

فور إعلان ترامب قراره المشؤوم ذاك، سارع مواطنون عرب ومسلمون في مناطق مختلفة للتظاهر رفضًا لما أسمونها "بلطجة أمريكية وتكريسًا للاحتلال"، كما بدأ الحديث عن انتفاضة ثالثة، دعت إليها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على لسان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، لكن التساؤلات تسارعت كثيرًا بشأن وصول الأمر إلى انتفاضة من عدمه.

 

وبالبحث فيما وراء التفاصيل أو الكواليس، تظهر عدة أسباب أخّرت أو ربما تمنع ظهور انتفاضة فلسطينية جديدة، أولها ما يتعلق بالداخل الفلسطيني، فيعيش الناس هناك حالة اجتماعية سيئة، كما أنّ الأثمان التي يدفعونها من قبل الاحتلال الإسرائيلي جرّاء أي تصعيد باهظة للغاية، تكلف كثيرين منهم حياتهم، دون وجود ما يضمن نجاح هذا الحراك.

 

كما أنّ جانبًا آخرًا من الداخل الفلسطيني يمثل سببًا في منع الانتفاضة، حيث أنّ الانقسام الداخلي يغيّب وجود قيادة تدير التطورات على الأرض، وبالتالي فإنّ أي اتفاق بين حركتي فتح وحماس باشتراك كافة الفصائل الفلسطينية ربما يشكّل حالة توافق داخلية تقوي جبهة المقاومة في مواجهة الاحتلال.

 

بالإضافة إلى ذلك أيضًا، يحول التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي دون دعم العمل المقاوم، وهذا يعني أنّ الفلسطينيين قبل حديثهم عن انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال يتوجب عليهم انتفاضة ضد أزماتهم الداخلية، وهنا مربط الفرس، كما يرى الكثيرون من الفلسطينيون.

 

كما أنّ الانتفاضة تكون في حاجة إلى تنسيق كافٍ مع السلطة الفلسطينية، وهو ما يعني سماح السلطة بأن تتم هذه الانتفاضة، لكن الحال يختلف في الظروف الراهنة، إذ أنّ الاتفاقيات التي وقعها الرئيس محمود أبو مازن مع الاحتلال بدت وكأنها وضعته في "خانة اليك".

 

تقول الباحثة البارزة في شؤون الشرق الأوسط بالمعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية جين كينينمونت لـ"واشنطن بوست": "وجود السلطة الفلسطينية يقوم على اتفاق سلامٍ مع إسرائيل، وحركة فتح ما زالت إلى الآن ملتزمة بهذا الاتفاق، لكن لطالما كان من الصعب على الفلسطينيين، لسنواتٍ عديدة، أن يعتقدوا أن حل الدولتين سيحدث بالفعل، فيما يعتقد الكثير من الشباب الفلسطيني أنه حل خيالي، وحتى المخضرمين من مفاوضي حركة فتح يقولون الآن إن الخطوة الأمريكية الأخيرة تُشير إلى أن حل الدولتين لم يعد قائمًا".

 

حركة "حماس" هي الأخرى، التي دبت الخوف والرعب في قلوب "الاحتلال" لسنوات عديدة، يبدو أنّ التغيرات التي طرأت عليها وربما الضغط التي تعرضت لها فرضت عليها واقعًا جديدًا.

 

يقول الباحث المتهم بدراسة "حماس" في جامعة برلين الحرة عماد الصوص في حديثه لصحيفة "واشنطن بوست": "خيارات حماس محدودة للغاية لبدء انتفاضةٍ أُخرى بنفسها، فإذا كانت هناك انتفاضةٌ شعبية، فمن المُرجَّح أنَّ حماس ستقفز عليها لقيادتها، ولكنهم مُشتَّتون إلى حدٍ بعيد، وغير قادرين على القيام بالانتفاضة بأنفسهم".

 

وأضاف: "يعتمد تصاعد العنف من عدمه على كيفية استجابة إسرائيل للاحتجاجات ضد إعلان ترامب، ولا أرى حتى الآن أنَّ الإعلان الأمريكي نفسه هو العامل الرئيس".

 

ويذكر محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عاموس هريئيل: "من الواضح أنّ حماس ليست مهتمة بتغيير قواعد اللعبة مع إسرائيل تمامًا، وبناء على ذلك، فإنّ رد الجيش الإسرائيلي كان مقيدًا إلى حد ما، ولن يمنع الطرفين من العودة إلى الهدوء المتوتر الذي اتسم بعلاقتهما منذ نهاية الحرب التي خاضها في عام 2014".

 

تُضاف إلى ذلك أيضًا التغيرات الإقليمية، إذ أنّ أطرافًا عربية فاعلة لم تكتفِ بأن أزاحت إسرائيل من قائمة أعدائها، لكن تخطى الأمر ذلك بأن بات يجمعها "تعاون"، سري في أغلبه، مع الاحتلال، والهدف المشترك في ذلك هو مواجهة المد الإيراني.

 

يُفسر ذلك مواقف القادة العرب، التي لم تتخطَ كتابة بيانات شجب وإدانة، يقول معارضون بشأنها إنّ قيمتها لا تتجاوز الحبر الذي كتبت به، مقابل الثمن الذي يدفعه المسلمون إذا ما راحت عنهم القدس.

 

الأكثر من ذلك، يتحدث محللون كثيرون عن أنّ ترامب ما كان ليتخذ قراره ذاك دون أن يكون هناك تفاهم مع قادة المنطقة، بل حتى أنّ بيانات الإدانة ما هي إلا موقف يُسجل منعًا لما يُسمى "الإحراج الشعبي".

 

يُدلّل على هذا الطرح ما قاله تلفزيون الاحتلال نصًا: "هذه الخطوة لم تكن لتتم لولا أن تم نسجها والتفاهم بشأنها على المستوى الإقليمي بين ترامب والسعودية ومصر".

 

وأضاف - مواصلًا التأكيد على الطرح: "لست متأكدًا أنّ الدول العربية التي شجبت شفاهيةً هذه الخطوة، وبالمناسبة هذا شجب ليس جديًّا.. انظروا إلى الإدانات.. الأمر ليس جيدًا".

 

اللافت في هذا الصدد أنّ ترامب وقبل ساعات من اتخاذه هذا القرار، تواصل مع أغلب زعماء المنطقة، ورغم التحذيرات الشديدة التي وضعها محللون من أعمال عنف واسعة تترتب على هذا القرار، إلا أنّ الرئيس الأمريكي لم يسمع أو بالأحرى تَفَاهم ثم قرر.

 

كما ضعت صحيفة "نوفال أوبسرفاتور" الفرنسية تقديرًا لاحتمالية انتفاضة ثالثة من قبل الفلسطينيين، وقالت: "نظرًا لوجود هذا الصراع منذ عقود في منطقة الشرق الأوسط، يمكن الإقرار بأنّ الفلسطينيين غير قادرين على قيادة انتفاضة على نطاق واسع على خلفية زعزعة مشروع استقلال بلادهم".

 

وحسب الصحيفة، فإنّ "الفلسطينيين قبلوا باختلال التوازن في ميزان القوى بينهم وبين الإسرائيليين، وبخاصةً بعد أن أصيبوا بأزمة نفسية على خلفية فشل الانتفاضة الثانية، فضلًا عن ذلك، اعترف أحد المسؤولين الفلسطينيين بهذا الجانب، وأقرّ بأنّ الإسرائيليين يملكون كل الوسائل بين أيديهم؛ بينما لا يملك الفلسطينيون أي شيء".

 

بعض الأصوات الإسرائيلية استبعدت هي الأخرى أن تقوم انتفاضة ثالثة، فأرجع مراقبون ذلك إلى ردة فعل جيش الاحتلال على تطوّر الاحتجاجات المشتعلة، إذ ما يظهر حتى الآن، يؤكد أنّ الاحتلال يقوم بامتصاص حالة الغضب، وتجنب تصعيد الأمور، وبذلك يغيب عنصر ضاغط للوصول لانتفاضة.

 

يوضح محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عاموس هريئيل: "أوامر الجيش بعدم إطلاق الرصاص الحي أدت إلى عدم التصعيد نسبيًا، ومعظم المصابين من الجانب الفلسطيني أصيبوا بالاختناق بسبب استنشاق الغاز المسيل للدموع، إذ لم يطلق الجيش الرصاص الحي على المتظاهرين، بل أطلق الرصاص المطاطي".

 

صحيفة "هآرتس" وضعت هي الأخرى عوامل ثلاثة رئيسية تحول دون اندلاع انتفاضة جديدة، أول هذه العوامل - كما تقول - هي "المصالح المشتركة للمناطق الثلاث الفلسطينية المحتلة، حيث أنّه في الانتفاضتين السابقتين، اندلعت شرارة الانتفاضة بين المناطق الفلسطينية الثلاث الواقعة تحت الاحتلال "الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس" في وقتٍ واحد تقريبًا، أمَّا الآن، فلا تنقسم هذه المناطق بصورةٍ غير مسبوقة فحسب، بل ولديها أجندات مختلفة كذلك".

 

العامل الثاني يتعلق بالضفة الغربية؛ حيث أنّ اندلاع انتفاضة فيها سيعني بشكلٍ شبه مؤكد نهاية السلطة الفلسطينية، ونظرًا إلى اعتماد عشرات الآلاف من المسؤولين والموظفين الأمنيين على السلطة في كسب أرزاقهم، فهناك مصلحة راسخة مُتأتية من مواصلة التنسيق مع إسرائيل، وإبقاء الوضع كما هو".

 

الصحيفة ذكرت العامل الثالث وهو "تشديدات جيش الاحتلال في الضفة الغربية، وقوات الشرطة في القدس الشرقية لقواعد الاشتباك الخاصة بهم".

 

الأبعد من ذلك، واللا منطقي عربيًّا، أن يشكل هذا "القرار الترامبي" بداية لعملية سياسية، حيث يرى رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" السابق الجنرال عاموس يدلين: "اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل يشكل فرصة لبدء عملية سياسية جديدة وفق متغيرات لم نعتد وجودها منذ ربع قرن".

 

وقال في مقال له في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "ليس من الصواب ألا تستغل إسرائيل التغيير بنموذج عملية السلام الذي طرحه ترامب، وبخاصةً أنّ لديها علاقات وثيقة بالبيت الأبيض هذه الفترة، يجب عليها استغلال الفرصة هذه المرة لكسب أحد مطالبها الأساسية، والتوصل إلى حل حول الموضوعات التي تهم أمنها القومي".

 

ويوضح: "حل القضية الفلسطينية مصلحة إسرائيلية بالدرجة الأولى، إذ يمكن أن يطبع حدود الدولة وجوهرها، وستندم إسرائيل لأجيال مقبلة، إذا رضيت بالوضع القائم، وواصلت تجميد العملية السياسية، وإلقاء اللوم على الفلسطينيين، أمامنا فرصة استراتيجية نادرة وعلينا استغلالها".

 

 

 

مقالات متعلقة