إشراقة السودانية.. من بيع الشاي إلى العالمية

د.إشراقة حامد

 من رحم المعاناة انطلقت لتشكل رقمًا يقف عنده الجميع بعد أن غادرت بلدها السودان لتحط رحالها في النمسا التي صارت لها بلدًا حملت جنسيته لتبدأ رحلة صعبة للبحث عن التميز فعمدت إلى إكمال دراستها وحققت طموحاتها وهي الآن كاتبة وروائية ومحاضرة بأعرق الجامعات النمساوية ومستشارة في دعم النساء ضحايا الاتجار بالبشر.

 

لم تجد حرجًا في سرد تجربتها مع الحياة مثل بيع سنداوتشات الفول وهي طالبة دبلوم عالٍ وانتهت بتأليف الكتب والشعر. إشراقة مصطفى حامد من مواليد منطقة كوستي بولاية النيل الأبيض في السودان درست الصحافة والإعلام بجامعة أم درمان الإسلامية وتخرجت بدرجة الشرف.

 أنجزت بعدها وفي ظروف قاسية جدًا الدبلوم العالي في الإعلام بجامعة الخرطوم كلية الدراسات العليا ثم الماجستير بجامعة فيينا كلية الإعلام وعلوم الاتصالات والدكتوارة من كلية العلوم السياسية بذات الجامعة التي عملت فيها محاضرة غير متفرغة لخمسة أعوام متتالية، أم لطفلين.. فإلي الحوار :ـ  

حدثيني عن حياتك ما قبل الجامعة وكيف تسلقتِ سلم النجاح؟

قصة كفاحي نشأت عندما وجدت جداتي وأمهاتي وخالاتي يعملن، والعمل قيمة إنسانية وساعدتني هذه الصور التي خزنتها في ذاكرتي منذ الطفولة في مقبل أيامي.. إنها قصة كفاح طويلة أختصرها بحماسي ورغبتي الأكيدة في التغيير، أنا أكبر أخواتي وأخواني، رغبتي في التعليم كانت ولا زالت قوية لأن التعليم لا نهاية له، ومن يظن أنه وصل نهاياته بالحصول على درجة الدكتوارة عليه أن يعيد النظر في رحلته المعرفية. علمتني أمي عائشة "عواسة الكسرة" وهي خبز شعبي من الذرة يطهى على "صاج" في شكل طبقات رقيقة، تمردت في البداية بحجة أني صغيرة لكني تعلمتها وكنت أنوب عن أمي أو جدتي عندما تصابان بالإعياء لبيعها، لذا عرفت منذ نعومة أظافري كيف نقاوم قسوة الحياة بضحكاتنا العالية وسخريتنا من واقع البيوت التي تتساقط تحت زخات المطر لا سيما وأن المنطقة معروفة بخريفها القاسي.ـ

  كيف أسهم كل ذلك في تشكيل دكتورة إشراقة ؟

 لا يأس مع الحياة.. أول تجاربي القاسية ولكنها محفزة هي محاولاتي الحصول على درجة تؤهلني لدخول كلية الإعلام لذا كان علي أن أمتحن الشهادة السودانية خمس مرات وتحت ظروف قاسية بكل المقاييس امتحنت ثلاث مرات من منازلهم "أي الجلوس للامتحان بدون الالتحاق بمعاهد تقوية أو أساتذة خصوصيين".. مرة تلو أخرى إلى أن تحصلت على نسبة 71% ما أهلني لدراسة الإعلام كمنتسبة، فدخلت الجامعة في وقت تخرجت فيه نديداتي ووضعت آخر ورقة امتحان في يوم الخميس 29 يونيو 1989 وصبيحة اليوم التالي "الجمعة" كانت البلاد تشهد تحولات بانقلاب الإسلاميين على الحكم الذي استمر حتى الآن.ـ

 إخفاقك المتكرر في دخول الجامعة هل كان بسبب انعدام الوقت الكافي؟

تجربة معممة لا ليس بسبب الوقت.. لكن حدثت ربكة في حياتنا أثرت في تركيزي كما أني امتحنت علمي ولم تكن لديّ أي رغبة في هذا المساق أيضا كنت أحس بالخوار كلما أقبلت أيام الامتحانات وهذه الربكة والخوف يحدث دائمًا في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة. يمكنني أن أكون أكثر وضوحًا.. هناك تجارب لا تخصني وحدي وكل التجارب الحلوة والمرة صقلتني لأنها ببساطة لم تقتلني وهي تجربة من مئات التجارب المسكوت عنها..ـ

دكتورة.. تجربتك في السودان ارتبطت بمعاناة قد يعيشها الجميع كيف ترينها؟

بائعة الشاي"الزولة" التي كانت تحلم بأن تكون صحفية ذات شأن تبيع سنداوتشات في شارع "الله والرسول".. هذه التجربة تم تضخميها فأنا عملت لأيام معدودة في بيع السنداوتشات لزميلاتي وزملائي بالدبلوم العالي بجامعة الخرطوم وكنت أصحو باكرًا لإعدادها بجانب بيع الشاي لأي عابر، وهي تجربة ثرية وإنسانية ولا تختلف من تجربة شاب ولد في عهد النظام الحالي تخرج في الجامعة ليجد نفسه سائقًا لـ"ركشة"- وهي دراجة نارية بثلاث إطارات- بعد أن تخلت الدولة عن سنده في تحقيق أحلامه، وهذا ينطبق على كثير من الشابات اللائي لهن من الأحلام ما يغيّر خارطة العالم لو وجدن فرصة.ـ

 

أحرزتِ درجة كنتِ تستحقين بها أن تكوني معيدة بجامعة أم درمان الإسلامية ماذا حدث بشأن ذلك؟

ثمن الاعتقاد لم يتم تعييني في جامعة أم درمان الإسلامية كمعيدة لا لسبب سوى لأني اخترت موقفي من الحياة برؤية سياسية لا أهادن فيها، فنشاطي السياسي ومواقفي الفكرية حالت دون توظيفي في كلية البنات كمعيدة رغم اجتيازي للشروط فلم أجد وظيفة رغم إحرازي درجة الشرف في الإعلام.. وكوني كنت ناشطة وقيادية في الجبهة الديمقراطية وعضو بالحزب الشيوعي في ذلك الوقت لا يمنح أحدًا الحق في حرق كتبي ومطاردتي ضمن ترسانة مطاردات دفع ثمنها النشطاء والناشطات من الأحزاب والنقابات والصحف، هذا لا أراه بمعزل عن محاولات تكميم الأفواه والتضيق على الآخر والنتيجة ترك لهم الكثير.. الجمل بما حمل.ـ

  إشراقة تحزم أمتعتها وتنوي السفر؟

فرصة الخلاص كفاحي هو جزء من كفاح طويل خاضه إنسان السودان والمرأة السودانية وقد لا تعرف امرأة منسية في أصقاع السودان أن تجربتها وتهميشها دفع بنتًا صغيرة لتفكر في السفر والانطلاق من بلاد بعيدة، انطلاقًا لم يأت بالساهل وكلما خارت قواي تذكرت كفاحاتنا في السودان تذكرت استيقاظ أمهاتي من الصباح الباكر لـ"عواسة الكسرة" وبيعها واستدعت الذاكرة مقولة لجدتي لن أنساها ما حييت عندما توقظني وأخواتي البنات لاستذكار دروسنا فكانت تقول: "العلم طريق خلاصكن".. يا لها من إنسانة لم تدخل المدرسة يومًا لكنها عرفت من طعم نار العواسة على أصابعها الجميلة أن التعليم سيرحمنا من هذه النار ولم تعرف أن المعرفة وطريقها أيضا نار .

خرجت من السودان بعد معاناة لم أرضخ لها حالما عرفت أن ضرباتها لم تقتلني. وصاحب السبق في دفعي للأمام ولولاه لما حدث كل ذلك الأب الرحيم عبدالرحيم عبدالمجيد منصور رحمة الله عليه فقد قام بواجب الدولة تجاهي وتجاه جيلي فقد تبرع لي لأسافر للنمسا عندما حصلت على القبول بمساعدة إنسان نبيل هو الصديق كمال معاذ عبر صديقه الأستاذ عبدالله وادي. تحصلت على القبول ووقفت عاجزة عن السفر، فكانت ألف ومائتي دولار كافية بفتح الآفاق أمامي فانطلقت وما زلت في سنة أولى معرفة.ـ  

في النمسا هل كان الطريق سالكًا أم واجهتك تحديات ؟

 أعمال قاسية رغم أني كنت محظوظة جدًا في الحصول على منحة حال وصولي النمسا لكنها محسوبة بدقة لذا كان لا بد أن أعمل لأقوم بواجبي تجاه أسرتي لذا اضطررت للعمل في مهن هامشية في بداية حياتي بالنمسا فعملت لدى أسرة عربية ثرية تقطن على مسافة ساعة ونصف عن مقر إقامتي فكنت أنظف منزلهم المكوَّن من ثلاث طوابق بما فيها الحمامات. وفي مرة سمعت جدتهم الزائرة تسأل: "شوف البنت دي أخدت الزبالة؟".. فالأمر كان مؤلمًا بالنسبة لي ليس لرأي في عمل النظافة فالعمل قيمة إنسانية علينا الاعتداد بها، ولكن... "سكتت برهة ثم واصلت".. المهم كنت حين أخرج من منزلهم إلى الجامعة التي كنت أرتادها بالمساء أجلس في "فسحة" كبيرة وأبكي بأعلى صوتي ولم يكن من بين المارة من ينتبه لعويل شابة صغيرة جارت عليها بلادها العزيزة مثلما جارت على غيرها من بنات وأولاد في عمر الزهور تمت مطاردتهم لا لسبب سوى الاختلاف في وجهات النظر.

كما عملت في توزيع الإعلانات الخاصة باتحاد الطلاب والطالبات النمساويات وكنت أقف مرة إلى مرتين في الأسبوع لتوزيعها في برد لم يتعود عليه جسمي ولا روحي التي عذَّبها البعاد عن بلاد الشمس والناس الدافئة ولا يفوت عليك أن الحذاء الذي رأيته مرميًا في زبالة المبنى الذى سكنت فيه وكنت مندهشة كيف ترمى كل هذه الأشياء الجديدة، ربما ماتت أو مات صاحب هذا الحذاء، لبسته لاكتشف في أول يوم للجليد الماطر أن بالحذاء ثقبًا وكنت أحس بأصابعي تتجمد.. كنت "أستخسر" أن اشترى حذاء جديدًا لأني أقارن سعره بالجنيه السوداني فأجد أنه يمكن أن يعول أسرتي شهرًا.ـ  

احكي لنا عن تجربتك الروائية ومؤلفاتك؟

 مؤلفات وأشعار المعارف والرغبة في الإبحار لعب فيها والدي "مصطفى" دورًا كبيرًا وحببني في قراءة الكتب التي كان يقتنيها فقد كان محبًا للاطلاع وذهنه منفتح لحد كبير مقارنة بالآباء في ذلك الزمان، وأول تجربة كتابية كانت قبل أكثر من ثلاثين عامًا وهي محض محاولات ما زلت أحتفظ ببعضها وعادة ما تخلصني الكتابة من ضغوط الحياة. نشرت حتى الآن ثلاثة مجموعات شعرية أولهم كان في منتصف 2003 بعنوان "أحزان شاهقة" وهي طبعة محدودة وتجريبية ثم في نهاية ذات العام نشرت بعض نصوصي باللغة الألمانية ونلت بها تحفيزًا من مجلس الوزراء النمساوي باختيارها ضمن 15 كتابًا صدروا في ذات العام، ومثلت به ضمن وفد النمسا بمعرض "لايبزك" للكتاب الدولي بألمانيا، بعدها نشرت مجموعتي الثالثة "أنثى المزامير" بالألمانية والعربية من دار "اميريت" للنشر بالقاهرة في 2009. لدي كتب جاهزة للنشر منها مقالاتي التي كتبتها منذ أعوام تراوحت من منتصف التسعينات وحتى الألفية الثالثة بعنوان "فوانيس" ومجموعة شعرية بعنوان "طقوس العطش" وتجربتي "أنثى الأنهار"، إضافة الى كتابين باللغة الألمانية سيريان النور قريبًا.ـ

  حصدتِ مجموعة من الجوائز ؟

حصاد السنين تحصلت على عدد من الجوائز أذكر منها جائزة الحركة النسائية الكاثوليكية للمرأة الفاعلة في 1997 وجائزة "ليبولد اشتيرن" الأدبية للقصة القصيرة بعنوان "ثلاثة وجوه مفرحة تتجاوز الحدود" وهي جائزة تمنح من نقابات العمال بفيينا إضافة لجائزة الإنجاز الأكاديمي من وزارة التربية والتعليم الاتحادية بالنمسا لموضوع بحثي نلت به درجة الدكتوارة في العام 2006 وجائزة الاعتراف من حكومة "لينز" بالنمسا العليا في ذات العام كما أحلم بنيل منحة الدولة النمساوية فهي تعني الكثير.

أنصال وبسمات.. أقول شكرًا لكل من مهَّد الطريق أمامي.. شكرًا لكل بسمة ولكل نصل ولكل شوكة.. إن الحياة تمضي بعذوبتها وقسوتها وإن محاولتي لتدوين تجربتي ما هي إلا محاولة متواضعة تقول للأجيال الجديدة إن المستحيل هو أن لا نطرق أبوابه.. صحيح أن الطريق صعب ولكن عبوره متعة.

مقالات متعلقة