هنا القاهرة، هنا حكايات انتهت قبل أن تبدأ، منها ما قد مات، ومنها ما يرفض الانطواء في ثنايا سطور كتاب الإهمال، إحدى تلك الحكايات بطلتها رضيعة تدعى "تاليا" علاء جلال عكرمي، قتلها الإهمال قبل أن تنطق كلمة واحدة منذ أن أتت إلى دنيانا، ولا زالت روحها تبحث عن القصاص العادل.
سطرت أول كلمات في حكاية تاليا ذات السبعة أشهر، وفقًا لحديث عمها، ضياء جلال عكرمي المحامي، يوم الثامن عشر من ديسمبر عام 2014، حينما قادتها نزلة شعبية حادة أصيبت بها إلى مستشفى التحرير العام بإمبابة، والتابعة لمديرية الشئون الصحية بالجيزة، حيث بدأت المعاناة التي انتهت بالموت.
في البداية، رفضت المستشفى استقبالها بدعوى عدم تواجد أسرّة خالية، انتهى الأمر بقبولها داخل القسم الاقتصادي، تحسنت حالتها قليلاً بعد عدد من جلسات الأكسجين، والمضادات الحيوية، وتهيأت الأسرة للخروج بها والعودة للمنزل، وبعد يومين من دخول المستشفى، بدأت ملامح الكارثة في الظهور، فتغير لون الطفلة بشكل ملحوظ إلى أن صار لون جسدها أزرق، وصوت بكائها الذي يتناسب مع سنها تبدل إلى أنات مرتفعة ومتواصلة، تريد أن تحكي لما حدث معها، وتشير إلى قاتلها، تريد أن تقول "أنقذوني فأنا أحتضر بلا ذنب".
بريق الأمل الذي ازدهر من جديد في نفوس والديها لتحسن حالتها سرعان ما تحول إلى هياج وبكاء وعويل، وسط محاولات مستمرة من جانب رياض شعبان أبو الدهب، مدير المستشفى، للتكتم على أسباب سوء حالة تاليا الصحية، لكن هذا الإنكار لم يصمد طويلا أمام طوفان غضب الأهل، بحسب عم الطفلة.
انكشفت الحقيقة وها هو السبب "خطأ في دواء الطفلة المخصص للنزلة الشعبية، إذ قامت ممرضة –تحت التمرين- تدعى مريم ميلاد، بناء على توجيهات الممرضة أميرة سعودي، بإعطاء الطفلة الدواء، لكنها أذابت عن طريق الخطأ مادة "الأوتروفنت"، في محلول مضاد حيوي، وليس المحلول المعد لذلك، وهو ما حدث على إثره التهاب نتج عنه تورم في الأحبال الصوتية، وسوء شديد بحالة الجهاز التنفسي للطفلة".
تقرير مستشفى التحرير يؤكد أن تناولها دواء خاطئ أدى لسوء حالتها
قرر الأهل وسط صدمة وذهول نقل الطفلة إلى مستشفى المقاولون العرب، والتي رفضت في البداية استلام الحالة بقولها "الحالة ميتة"، محاولات عدة أنهت الأزمة، وذلك بتاريخ 20 ديسمبر 2014، ففي مصر الدواء قد يكون قاتلا.
أعادت مستشفى التحرير إلى أهل تاليا الأموال التي دفعتها، لكن تلك الأموال عجزت عن إعادة تاليا من جديد، عجزت عن إعادة الأمل لأسرتها في احتمالية النجاة، زامنتها محاولات متواصلة من مستشفى المقاولون لإنعاشها، لكن جميعها باءت بالفشل، وأتت لحظة انقضاء الأجل.
شهادة وفاة تاليا بعد يومين من دخولها مستشفى المقاولون العرب
يتوقف عكرمي قليلا عن استكمال الحديث، وكأن الكلمات علقت في حلقه، تصارع للخروج تمنعها آلام استعادة مشهد الوادع القاسي، وفي نهاية المطاف قرر مواصلة الحديث، قائلا: "كان آخر لقاء بين تاليا وأسرتها صامتا، حكت فيه الأعين ما عجزت عن وصفه الكلمات، فبنظرة حملت حزن الدنيا من أهلها تقابلها نظرة تاليا تروي عن مآساتها، وكأنها تقول "هذه جنايتهم عليّ وما جنيت على أحد"، انتهى مشهد الوداع المر.
بتاريخ 24 ديسمبر عام 2014، فارقت تاليا الحياة بنظرة حملت لعنات على دنيا لم تعشها، انتهت معاناتها لكن معاناة الأهل بدأت للتو، وستعيش ذكرياتها المؤلمة معهم للأبد، وانتقلت الحكاية من مرحلة الصحة المميتة، إلى مرحلة العدالة المشلولة.
عام ونصف العام منذ رحيل تاليا، ولا زالت روحها تبحث عن قصاص لم يتحقق بعد، فدخلت القضية درب القضاء حينما حرر محضر بالواقعة في قسم شرطة إمبابة، حمل رقم 13218 إداري إمبابة، بتاريخ 20 ديسمبر 2014، ليفاجأ الأهل بحفظ المحضر بعد 15 يوما بتاريخ 5 يناير 2015.
أثار الأهل القضية في وسائل الإعلام، لتحمل في البداية إنكارا للواقعة من جانب حسام عبد الغفار، المتحدث الرسمي لوزارة الصحة حينها، في مداخلة مع أحد البرامج، لكنه سرعان ما تراجع عن موقفه، حينما أخبره والد الطفلة بوجود تقرير يثبت ما حدث للطفلة صادر عن مستشفى التحرير العام المتهمة بقتل الرضيعة، ليرسل مذكرة للنائب العام حملت رقم 474 لسنة 2015 جنح إمبابة.
يتابع عم الطفلة: "ولأننا أصبحنا في زمن الفاسد المتبجح، أنكر رياض شعبان أبو الدهب، مدير المستشفى، الواقعة ليحال الملف الذي حمل رقم 988 لسنة 2015، برمته إلى مصلحة الطب الشرعي قسم التشريح، مع العلم أن تقرير المستشفى يثبت اعترافها بالواقعة.
تولت الملف الدكتورة إلهام عوض، والتي أرسلت تقريرا مبدئيا للنيابة العامة، إلا أنها أصرت على تقرير نهائي، أوكل إلى استشاري مجهول إلى تاريخه.
لم يكن هذا هو الملف الوحيد، بل كان هناك ملف آخر حمل رقم 70 لسنة 2015، أمام النيابة الإدارية "نيابة الصحة ثالث"، والتي استدعت جميع المدانين والشهود، لكن حتى الآن لم تصدر مذكرة تصرف في القضية، بزعم من رانيا رضا، وكيل نيابة إدارية للصحة، والمسئولة عن التحقيق، بدعوى انتظار الفصل في الشق الجنائي من النيابة العام بالمخالفة لطبيعة الدعوى المقدمة لها، فهي دعوة مستندية كاملة الأركان ولا تستدعي انتظار الشق الجنائي.
الموت هنا لا يقتصر على من غادرت أرواحهم دنيانا، فهو يحدث مرة واحدة، لكن هناك قتل آخر يعيش معنا لحظة بلحظة، فكما ينهي السلاح الحياة، تقتل البيروقراطية أمل الأحياء، فإلى الأن لم ترسل رانيا رضا ملف القضية إلى المحكمة التأديبية لاتخاذ اللازم قانونا بحق المدانين، كما امتنعت عن استخدام سلطتها في وقفهم عن العمل، أو وقف ترقياتهم حتى انتهاء التحقيقات.
عكرمي، بصفته الوظيفية كمحام، يؤكد أن النيابة الإدارية هي جهة تحقيق في المخالفات الإدارية وليس لها علاقة بالشق الجنائي، الذي تطالب به رانيا رضا، وأن المحكمة الإدارية العليا قضت في بعض أحكامها على الفصل بين المسئولية الجنائية والمسئولية التأديبية، لأن الجريمة التأديبية الجنائية لكل منهما كيان مستقل، وأن الجهة الإدارية يجب أن تفصل في المسئولية التأديبية دون انتظار المسئولية الجنائية.
وأخيرا وليس بآخر، تساءل عكرمي "أين العدل"، مستشهدا بقضية الفنانة غادة إبراهيم، التي لم يمض على تواجدها في القضاء شهرا واحد، وقضية الفنانة ميرهان حسين، والتي صدر فيها تقرير الطب الشرعي، بعد أيام من الواقعة.
واختتم عكرمي حديثه باعتزامه والمحامي إيهاب خورشيد، رفع دعوى عزل أمام محكمة القضاء الإداري، ضد كل من وزير الصحة، ورئيس هيئة النيابة الإدارية كل منهما بصفته، إلى جانب وزير العدل، إذا لم يتم الفصل في القضية في أسرع وقت.
اقرأ أيضًا:
فيديو.. الصحة: خطأ جنائي في وفاة "الرضيعة تاليا" بمستشفى إمبابة بالفيديو| وزير الصحة لمدير مستشفى بالإسكندرية: دم الطبيب في رقبة مين؟ بالصور| وزير الصحة: خدمات علاجية جديدة لغير القادرين الأطباء تطالب النواب بتغليظ عقوبة الاعتداء على المستشفيات