قيل إن أبا حنيفة النعمان كان يجلس ذات يوم بين تلاميذه مادًّا ساقه التي أرهقها المرض؛ إذ انضم إليهم مجهول تعلوه الهيبة، فطوى الإمام ساقه المتعبة حياء من ذلك الذي تبدو عليه أمارات العلم وسمات الفقه، حتى إذا ما نطق الرجل بما يؤكد فراغ عقله مما ظنه الإمام به عاد أبو حنيفة إلى هيئته الأولى وأطلق دعابته المشهورة: آن لأبي حنيفة أن يمد ساقه. وهي الكلمة التي صارت فيما بعد مثلا يتكرر عند كل موقف مشابه يتوسم فيه القائل وقارا في من يتبين بعد ذلك أنه ليس له بأهل، فما كل ما يلمع ذهبا وما كل هيبة ظاهرة مرآة صادقة لجوهر صاحبها، وهو السبب الذي من أجله كان يقول سقراط لصاحب الهيبة الظاهرة: تكلم حتى أراك.
تحتل قيادة الإخوان منزلة عظيمة في نفوس أفراد الجماعة، يقول مؤسس الإخوان حسن البنا في رسالة التعاليم: "القائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة"، ويضيف: "وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة"، ومن ثم ينبغي أن يكون الإخواني - بحسب رسالة التعاليم - "مستعدا لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة - في غير معصية طبعا - قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد ولا للانتقاص ولا للتحوير"، كما ينبغي أن يكون "مستعدا لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي".
وبما أن القرارات التنظيمية وتلك المتعلقة بالشأن السياسي تقع في دائرة المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص قطعي؛ فإن على الإخواني في هذه الحالة أن يسمع ويطيع لقيادته حتى إذا رأى في قرارها الخطأ، وحتى إن نبه لذلك الخطأ فما عليه بعد التنبيه إلا أن ينفذ ما استقر عليه رأي القيادة.
بهذه الطريقة المعتادة إخوانيا تصرف محمد البلتاجي حينما نوقش قرار الترشح للرئاسة في اجتماع الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية للجماعة) في 31 مارس 2012، فقد كتب في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك بتاريخ 2 أبريل 2012 أنه متفق تماما مع ما ذهب إليه الكاتب الصحفي فهمي هويدي من تخوفات حول هذا القرار الذي ينبئ بصدام قادم بين الإخوان من جهة والمجلس العسكري ومؤسسات الدولة وقوى سياسية من جهة أخرى، ذلك في مقال له تحت عنوان "وقعوا في الفخ" نشره صبيحة الثاني من أبريل 2012 بصحيفة الشروق المصرية، غير أن البلتاجي ورغم هذا النصح الذي أسداه لإخوانه قبل أن يصوّت برفض القرار فإنه يحترم ما ذهبت إليه الجماعة ويشاركها خطواته وتبعاته.
كان الإخوان قد قرروا في 10 فبراير 2011 عدم الترشح للرئاسة، وصرح مرشدهم محمد بديع في لقاء مع الإعلامي وائل الإبراشي عبر فضائية دريم2 في 20 يناير 2012 أن الجماعة عند قرارها بعدم الترشح وتتطلع إلى انتخاب شخصية وطنية غير محسوبة على التيار الإسلامي حرصا على مصلحة مصر وحمايتها من قوى دولية تتربص بالإسلاميين دون غيرهم. فلما غيّر الإخوان قرارهم وأعلنوا الترشح قلت في نفسي كما قال كثير من الإخوان: بالتأكيد هناك عناصر جديدة في المعادلة ومياه جرت في الشهرين الأخيرين بين الجماعة والقوى الدولية والقوى المتحكمة داخليا شجعت القيادة على اتخاذ هذا القرار بعد أن كانت إلى وقت قريب تستبعده تخوفا من تبعاته.
ثم اكتشفنا بمرور الزمن والأحداث أن المياه التي ظنناها جرت لم تكن موجودة، وأن سفينة الحكم الإخواني حاولت الجري على اليابسة حتى رأيناها ترتطم بصخرة عاتية حطمت أجزاءها، بل اكتشفنا أن القرار لم تسبقه دراسة عميقة لمآلاته ولم يصحبه نقاش مطول حول تبعاته، هذا ما قاله القيادي الإخواني جمال حشمت في مقال له بعنوان "في ذكرى 25 يناير كنت هناك ولكن" نشره موقع المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية في 29 يناير 2017؛ فقد تمنى حشمت أن لو طال النقاش في اجتماع مجلس شورى الإخوان في ذلك اليوم الذي اتخذ فيه القرار حتى يتدارس أعضاؤه القوى المتحكمة في البلاد والسيناريوهات المحتملة لطريقة تعاطيها مع الرئيس الإخواني المحتمل، فقد اكتفى المجلس بمناقشة المرشحين وفرص الفوز، كما أقر بأن المعلومات المهمة اللازمة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية كانت بحوزة عدد قليل من قيادات الجماعة وكانوا يضنون بها حتى على أعضاء مجلس الشورى ومنهم حشمت، رغم أنهم يمثلون الهيئة صاحبة الحق لائحيا في إصدار تلك القرارات المصيرية.
لقد نطقت الأحداث بما كان خافيا وتكلمت التجربة فبدا ما كان مستترا خلف هيبة القيادة التاريخية ورأينا ما يعتريها من عوار وضعف منهجي؛ لذا آن للإخواني أن يمد ساقه.