كان بين المعتقلين السياسيين صحفى مخضرم، يبهرك بطرقه فى جمع المعلومات.. كان فى أواخر الأربعينيات وربما فى مطلع الخمسينيات.. كان يتحدَّث دوريًا على الملأ فى "التريض" _ذلك المكان الواسع الذي يجتمع فيه نزلاء العنبر_؛ فى سرد لأهم أخبار الأسبوع وفى تحليل لبعضها.. ديدنه فى التحليل كان إطلاق البشريات، و"الانقلاب يترنح" كان عنده أسلوب حياة.. غالباً كنت أنفر من تفاؤله الزائد وأرى عباراته مجرد مسكنات لا تتفق مطلقاً مع تحليل "واقع"؛ خاصة حين يكثر من عبارات مثل: "ساعة الصفر قد اقتربت"!.. وحين كانت أغلب استشهاداته تجنح إلى "مصادره الخاصة" داخل أروقة "الانقلاب"!!..
كانت تُبسَط للرجل البُسُط ويُستقبل استقبال الفاتحين.. فعلًا..
على العموم كان الرجل مجتهدًا، وله جمهور ينتظره أسبوعيًا؛ جمهور يعشق جرعات من "المورفين" متناولًا إياها فى غير الوريد!..
فى ذات نهار آخر من نهارات محبسنا في مطلع العام الماضي ٢٠١٦، كان شخص آخر يتوسط ذات المكان بالتريض.. يقف فى الجموع متحدثًا، يستمع إليه جمع جماهيرى أيضا.. كان المتحدث شابًا ثلاثينيًا مفوَّهًا مختصًا فى اللغة، ولكنه يولى السياسة والصحافة والإعلام اهتمامًا بالغًا، بجانب قدرة مقبولة جداً على الرصد والتحليل والمتابعة..
كان الشاب يتناول "المشهد السياسى" بالحديث عن بعض العناصر الأساسية التى تؤثر فى تغيراته ..
أعجبتنى فى تحليلاته لغة الاحتمالات والترجيح بينها وفقاً لموازين القوى وفن الممكن؛ فقد كانت أطروحاته تفتح لدى أفقًا لمحاولات الفهم بعيدًا عن التحليلات المؤامراتية الجازمة!.
كان أحد عناصر حديثه فى ذلك اليوم هو "الصف الإخوانى"، ومدى تأثيره وعلاقته بكامل المشهد.. أتذكَّر مضمون ما تحدَّث به حينها:
الإخوان على نمطين - بعيداً عن التشريح العمرى- نمط حداثى يتسم بالتجديد.. بسرعة المراجعة وتدارك الأخطاء.. ونمط آخر محافظ يتسم بالتقليدية التى تحافظ على الأصول، أيضًا المراجعة عند ذلك النمط موجودة ولكنها فى معدل أقل سرعة.. على النمطين ألا يلغى أي منهما الآخر؛ الأول يدفع نحو التجديد ومواكبة الظروف السريعة وتحريك المياه الراكدة بفعل الأخطاء المتراكمة.. والثانى يحافظ على الأصول ويكبح جماح اندفاع النمط الأول.. كان الشاب يؤكد مرارًا أن كلماته تلك هى من بنيات أفكاره، وما هى إلا وجهة نظره الشخصية..
تحدَّث أحد الحضور معه مشككًا في صحة المعلومات التى بنى عليها تحليله؛ فالأمر لم ولن يصل إلى حد "الأزمة"؛ هى مجرد تململات من ثلاثة مكاتب إدارية وليست عشرة كما زعم المتحدث..
إذن هى قلة قليلة تندسُّ بين الجماهير!...
لا بأس.. طالما أن الأمر فى إطار "المعلوماتية" فالوصول إلى الحقيقة فيها هو أسهل ما يكون، وطالما أن أفقًا من الحوار الموضوعى كان مبسوطًا بين المتحدثين؛ فلا بأس أيضًا..
ولكن الغريب.. العجيب.. المريب..
هو ما حدث بعدها!!!..
رجل خمسينى اشتعل الشيب فى رأسه ولحيته جهر مقاطعًا الشاب بثقة وهيبة آمرًا إياه بإنهاء اللقاء..
بمنتهى تلك البساطة!!..
بالرغم من شهرته بين أبناء محافظته واعتبارهم إياه مسئولًا ضمن "الإخوة اللى فوق" ؛ كونه عضوًا بالمكتب الإدارى بتلك المحافظة، فإني لم أكن حقًا أعرفه!..
كنت أتعجب وأتساءل!!..هل هذا الرجل هو "المنتِج" الذى يتحكم بنقوده فى أطروحات المتحدثين مثلًا؟!.. أم أنه وصىٌّ على قُصَّر هو بطبيعة الحال أدرى بما يناسب طفولتهم؟!!.. أم أنه ظل الله فى الأرض الذى يملك من الصلاحيات ما يعطيه أحقيَّه الحجب أوالتمرير؟!!
كان الموقف غريباً بحق.. بالطبع ثارت حفيظة الشاب المتحدث فرد بانفعال، أيَّده فيه البعض وأنكر عليه البعض الآخر، بينما كان على الأعراف رجال..
المهم.. أن حصيلة لقاءات مصغرة تمت بعدها للتحقيق فى الأمر، أنتجت وبكل بساطة منع ذلك الشاب نهائيًا من التحدث للجماهير!!؛ فهو بالتأكيد لا يمتثل لتوجيهات إخوانه الكبار، ولا يحترم سبقهم وجهادهم وعطاءهم!!..
لم يكن خارج السجن يختلف كثيرًا عن داخله؛ فأمور غريبة جدًا من ذات القبيل كانت تصلنا الأنباء بحدوثها فى كل الأنحاء!.
إدارة مزرية للخلاف توهمت "وحدة الصف" ورفعت منه شعارًا، ولكنها من حيث لم تدر بدأت تنهش فيه، وتمزقه شر ممزق!!..
المهم.. أن رحلة فقدان الثقة في أحقية أولئك الأشخاص للتصدِّر قد بدأت وتيرتها عندي تتزايد، وصورتهم قد أخذت تهتز، ويبدو أنها لن تعود كسابقتها!!.
حتى تلك اللحظة كانت مجرد ممارسات مستفزة فيها تقديم "الشخص" على حساب "المبدأ" ..
كانت مجرد شرارة دفعتنى لأواصل الرحلة.. رحلة التساؤلات.
مدون مصري وسجين سياسي
المقال الأول: متساقط أنا
المقال الثاني: القواعد من الرجال
المقال الثالث: زحل ٢٠٤٠
المقال الرابع: كالميت بين يدي مُغسلِه !