كان "البنا".. ذلك الشاب المجدّد.. قد أبدع في التوجيه نحو بناء الفرد المسلم؛ فعدد صفاتًا عشرة استقاها من مشكاة النبوة، ودفع أتباعه نحو التحلّي بها.. بالفعل كانت صفاتً ملهمة أجملت لديَّ فهم صحيح الدين.. كانت تدفعني نحو الاتزان دفعًا.. نحو الشمولية.. نحو الإحاطة بالإسلام من كل الجوانب..
ولكني بعد أن بدأت الرحلة صرت أتساءل!! .. هل كان تكويني الفكري متزنًا؟ هل كانت المحتويات الثقافية التي أتلقاها داخل "المحاضن التربوية" كافية لحدوث ذلك الاتزان؟!
لحظة.. هل ترون ما أرى؟! .. نعم .. ذلك الفارس العابس القادم من أقصى الأقاصي.. من أبعد نقطة على "الكيبورد"!! .. نعم هو.
على رسلك أيها المغوار الجسور.. اغمد سيفك أرجوك؛ فأنا أعلم.. وعزة وجلال الله أعلم !.. أعلم أن الإمام "البنا" قال معقبًا على صفاته العشرة: " ... وهذا واجب كل فرد على حدته" .. أراك تريد القول: "إذن لا تلق بلائمة خيبتك الشخصية على الجماعة"!.. حسنًا .. اهدأ الآن، والتقط أنفاسك فارسي؛ فأنا أستوعب كلماتك تمامًا .. هدئي من روعك قليلًا وحاول أن تستظل تحت إحدى أشجار "مزرعتك السعيدة" !
بالطبع كنت أسعى بذاتية نحو الاتزان .. نحو تكوين الفرد ذي الصفات العشرة .. ما فتئت أحاول أن أقوم عودي بينها .. أيضًا كنت ولا أزال أثني على الجماعة جَهدًا يألوه أفرادها ومربُّوها صوب ذاك التكوين.
الآن وبعد أن بدأت رحلة الأسئلة .. صرت أتعجب !.. من جماعة ترى الإسلام نظامًا شاملًا، والسياسة جزء أصيل منه، ولكنها أبدًا لم تكن تؤهلني لفهم قواعد تلك اللعبة؛ اللهم إلا من محاضرات متواضعة الكم والكيف عن "أحداث"!.. وربما متابعات في"الأسرة" الأسبوعية لما آلت إليه الأوضاع في البلاد.. أو في الأغلب "توجهات" من القيادة و"رسائل" من فضيلته؛ كنت أنصت حينها وأتابعها وكأن على رأسي سربًا من الطيور ! .. كنت أتوهم حينها إدراكًا للأمور كالذي وصل إليه "كيانوريفز " - نيو - في " the matrix .." أجلس مع أصدقائي من غير الإخوان محللًا للواقع السياسي؛ فأتقمص دور "ليونارد دي كابريو" - دوم كوب - في " Inception ولكن تبين لي أني لم أكن أحمل من الحكمة أكثر مما حمله المعلم "إبراهيم سردينة" في "لن أعيش في جلباب أبي"!
كانت تلك الأنشطة التوعوية التبصيرية - زادي السياسي - موسمية ؛ فهي تزيد وتتكثف حينًا ، وتقل وتنحسر أحيانًا فقبيل الانتخابات مثلًا كانت الأحاديث بين الإخوان تتزايد عن "الربط الانتخابي" -حصر وتواصل مع أعداد معينة من الناخبين- ، وعن "سهم الانتخابات" -مبلغ مالي يدفعه الأفراد طواعية لدعم الحملة الانتخابية-، وربما عن محاولات فهم "أنظمة الانتخاب والترشح" -، (فردي/قائمة نسبية ..عقد مقارنات بينهما ..أفضلية كل منهما لنا وفرص الفوز... ) - ، وحينما كان يحين موعد الانتخابات ترانا نحشد لخوضها الصفوف ، ونستدعي للمعركة أسبابها، ونعبئ الصف "المجاهد" بتعبئة تفوق التعبئة العامة للجيش !؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، والنصر دائما مايكون صبر ساعة ، والإسلام قطعًا هو الحل .. نادرًا ماكنت ألمس حديثًا جادًا عن إحصائيات أو أرقام .. عن "برامج انتخابية".. عن خطط زمنية واضحة المحطات.. فقط شعارات برَّاقة .، تتفنَّن في الخلط والمزاوجة ، وربما "المزاولة".. للبؤساء أمثالي !
"النضارة.. النضارة ، إسلامنا ده كله حضارة" ! .. "الإسلام أمل الأمة" !! .. "علّم ع الميزان علامة .. تشهد لك يوم القيامة "!!! ... لا بأس .. أنا أعشق الشعارات أنا بطبيعتي كائن "زيَّاط" أحب "التنطيط" ، ومثلي في الإخوان كُثُر .. حتى وإن كانت سمات البعض الآخر منهم تميل إلى الهدوء والعزوف عن السياسة؛ فعليهم حتمًا أن يشاركوا في الأمر؛ ففي الرقاب لله بيعة .. لدين الله .. للتنظيم الذي يخدم الدين .. للمرشد الذي يقود التنظيم .. لإخوانك "اللي فوق" . طاعة واجبة لهم؛ فهم على غير معصية !
إذن فليسقط الاستقلال ولتحيا الشعارات .. إذا كان " هتلر " قد تحدَّى الدنيا من حوله فقال: "أعطني سلاحًا ألمانيًا وجنديًا فلسطينيًا وسوف أجعل أوروبا تزحف على أناملها " ، وإذا كان "جوزيف جوبلز " وزير إعلامه قد قال :" أعطني إعلامًا بلا ضمير ؛ أعطك شعبًا بلا وعي " فأنا على استعداد تام بأن أنازع ذلك الأخرق القصير ذا الشارب الصغير ، هو وصاحبه .. مستعد أن أتحدَّى" النازية " وأهلها فأقول لهم : " أعطني شعارات فضفاضة ؛ أعطك " أي حاجة في رغيف"!
أحيانا .. وفي غير ذات السياق السابق ، كنت أحضر مستمعًا إلى مواد توعوية " سياسية " جادة ، ولكنها - وللأسف - وعلى ندرتها كانت ذات محتوى مترهّل يفتقر إلى تماسك يقيم صلب فكري المشرد !
اممم .. يبدو أنني في ورطة جديدة ؛ لقد عاد من جديد .. عاد الفارس المغوار .. الصارم البتار ... أهلًا وسهلًا .. كيف كانت المزرعة ؟
_ " ...................................."!
_ "هدّئ من روعك أخي الكريم ؛ إنها مجرد كلمات !؛ هذيان من شخصي المريض !! .... بالمناسبة .. ما اسمك فارسي النبيل ؟؟"
_ " ......................................"!!.
_ "أرجوك دع عن وجهك الجميل ذلك العبوس المخيف ، وأخبرني صديقي قبل أن تنقضَّ عليَّ بسيفك .. جماعة بحجم الإخوان تولي السياسة قدرًا كبيرًا من اهتماماتها وتنخرط في كافة الأنشطة السياسية ؛ هل تؤهل أفرادها لممارستها بقدر كاف يتناسب مع ذلك الاهتمام الكبير ؟".
بدأ يرد في حدة:
_ " أولًا .. بالإخوان قسم كبير يختص بهذا الشأن ، ويشارك في إعداد رؤاه وخططه وبرامجه نخبة من عباقرة الجماعة .. لجنة مركزية من المختصّين ... ثانيًا .. كل من يشارك في هذا المضمار ، نائبًا برلمانيًا .. نقابيًا .. رجل دولة .... ؛ الكل يتم إعداده وتأهيله بقدر عالٍ جدًا من التخصصية .. ثالثًا .. الحزب دائمًا يعقد الأنشطة التثقيفية وأمثالك يتكاسلون عن الحضور .. رابعًا.. وهذا هو الأهم .. أنت من القواعد ! وما يعنيك أنت بالتأهيل لذلك الامر ؟!!
كان رد فارسي قويًا .. مكثفًا .. حاضرًا .. حقًا ألجمني !
بالرغم من خلو حديثه من أية شواهد تلمس واقعًا سياسيًا نحياه، إلا أنه ألجم لساني حقًا فلم أستطع أن أرد عليه .. لم يتبادر في ذهني سوى لون كنت أود أن أخبره به !.. انسحبت في هدوء وأنا أتردد في نفسي .. هل أخبره بلونها ؟!!.. آثرت السلامة ورحت أنصرف من أمامه معتذرًا .. لم أفكر بعدها إلا في كلمة واحدة من بين كلماته آلمتني .. خدشت حيائي وجرحت مشاعري !!؛ أنا واثق من أني " رجل " وهو نعتني ب " أنت من القواعد " ! .. هل كان يقصد بالفعل أني من " القواعد من الرجال " ؟!
أثناء رحلة التساؤلات ، قرأت "قواعد في الممارسة السياسية " لـ "جاسم سلطان " .. كتاب حوى من قواعد اللعبة السياسية واحدًا وعشرين قاعدة مقسم إلى ثلاثة فصول، يطوف بك كاتبه المبدع بشرح مبسط بامثلة لكل قاعدة؛ لتدرك بعد مطالعته " جوهر " السياسة " وموازين القوى " وأنواعها .. كيف تتعامل وفق " فن الممكن " إذا كنت طرفًا ضعيفًا .. كيف تكون" المناورة " .. كيف تحمّل " طاولتك " السياسية ما تحتمله وكيف تحافظ على " الروافع " .... كتاب على صغر حجمه وبساطة محتواه وبعده عن التعقيد ؛ فإنه جعلني بعد إسقاطه على الواقع أدرك يقينًا أن مؤسستي كانت تمارس أمورًا هي أبعد ما تكون عن " السياسة "، وأن المشكلة هي أعمق بكثير من مجرد ضعف تأهيل القواعد ! ؛ إنها مشكلة تتعلق بـ "القواعد من الرجال" حين يرجون نكاح السياسة.
مدون مصري وسجين سياسي
المقال الأول: متساقط أنا