رئيس التحرير: عادل صبري 08:51 مساءً | الخميس 28 مارس 2024 م | 18 رمضان 1445 هـ | الـقـاهـره °

عمر المختار.. شيخ المجاهدين

عمر المختار.. شيخ المجاهدين

ملفات

عمر المختار

في ذكرى وفاته..

عمر المختار.. شيخ المجاهدين

مصر العربية 16 سبتمبر 2013 11:22

في بيئة جبلية مقفرة عاش اليتيم اليافع، لم يكن همه منذ صباه إلا حفظ القرآن عن ظهر قلب، ودراسة تعاليم الدين الحنيف من شيوخ قبيلته ببرقة في الجبل الأخضر في ليبيا، وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعا.

إنه "عمر المختار" من بيت فرحات بقبيلة بريدان وهي بطن من قبيلة المنفة أو المنيف والتي ترجع إلى عبد مناف بن هلالبن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أولى القبائل الهلالية التي دخلت برقة، وأمه هي عائشة بنت محارب.

وخلال السنوات التي قضاها عمر المختار في الجغبوب ، حيث كان يكمل دراسته، تمكَّن من اكتساب سمعةٍ حسنةٍ وقوية عند شيوخ الحركة السنوسية وقد بلغت تلك السمعة من القوة أن قرَّرمحمد المهدي السنوسي - ثاني زعماء السنوسية - أخذ عمر المختار معه سنة 1895 برحلته من الجغبوب إلى الكفرة في جنوب شرق الصحراء الليبية، وبعد هذه الرحلة اصطحبه مرة أخرى في رحلة من الكفرة إلى منطقة قرو في غرب السودان، فاصطحب معه عمر المختار، وعيَّنه هناك شيخًا لزاوية عين كلك.


ويروى أنه في الطريق إلى السودان وبينما كانت تعبر قافلته الصحراء أشار أحد المرافقين للقافلة إلى وجود أسد مفترس بالجوار، واقترح تقديم إحدى الإبل كفدية لاتّقاء شره، إلا أن عمر المختار رفض وقال: «إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها لحيوان؟ والله إنها علامة ذلٍّ وهوان، والله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا»، ثم خرج الأسد فذهب إليه وقتله، وسلخ جلده وعلَّقه لتراه القوافل الأخرى، وبعد ذلك كل ما ذُكِرَت القصة كان يقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى، وقد مكث عمر المختار بالسودان سنواتٍ طويلة نائبًا عن المهدي السنوسي، حتى بلغ من إعجاب السنوسي به أن أصبح يقول: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم".

وعيَّنه المهدي السنوسي في سنة 1897 شيخًا لبلدة تسمى زاوية القصور تقع بمنطقة الجبل الأخضر شمال شرق برقة والتي تقع قريبًا من مدينة المرج، وأحسن عمر المختار الأداء في هذا المنصب، رغم أن البلدة التي كُلِّف بإدارتها كانت تقطنها قبيلة العبيد التي اشتهرت بشدة البأس وصعوبة الانقياد. وقد أدَّت علاقته الوثيقة بالسنوسيّين إلى اكتسابه لقب سيدي عمر الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.

وعندما بدأ الاستعمار الفرنسي لتشاد في عام 1900 واجه الفرنسيون الحركة السنوسية بالعداء وأخذوا يحاربونها، فجيَّشت الحركة نفسها ضد الفرنسيين بدورها، وكان عمر المختار ممَّن اختيروا لقيادة كتائب الحركة ضدَّهم، كما وقد شارك خلال ذلك بالدَّعوة في تشاد، وخلال قتاله في تشاد أصيبت إبل المقاتلين الأربعة آلاف بداء الجرب، ووُكِّل هو بعلاجهم، فأمر بأخذهم إلى عين كلك لأن مائها جيّد، فتعافت الإبل.

توفي محمد المهدي السنوسي في عام 1902 الموافق 1321 هـ، واستدعته القيادة السنوسية على إثر ذلك للعودة إلى برقة، وقيل في عام 1906. وهناك عُيِّن مجددًا وللمرة الثانية شيخًا لبلدة زاوية القصور، وأحسن إدارتها حتى أنَّ العثمانيين هنَّؤوه على تمكِّنه من جلب الهدوء والاستقرار إليها بعد أن أعياهم ذلك، وقد ظلَّ عمر المختار في هذا المنصب مدَّة ثماني سنوات، حتى عام 1911. وقد قاتل خلال هذه الفترة جيوش الانتداب البريطاني على الحدود المصرية الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد، خصوصًا معركة السلوم في عام 1908 التي انتهت بوقوع بلدة السلوم في أيدي البريطانيّين.

وجد عمر المُختار نفسه قد تحوَّل من مُعلّم للقرآن إلى مُجاهد يُقاتل في سبيل بلاده ودينه لدفع الاحتلال عنها. وكان قد اكتسب خبرة كبيرة في أساليب وتكتيكات الحروب الصحراويَّة أثناء قتاله الفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ليحصل على الأفضليَّة دومًا عند مجابهته الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها.

أخذ المختار يقود رجاله في حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، فيضربوهم ضرباتٍ موجعة ثمَّ ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء. عمل المجاهدون الليبيّون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء، وإيقاع الرتل وراء الرتل في كمين، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي، وقد أصابت هذه الهجومات المسؤولين العسكريين الإيطاليين بالذهول في غير مرَّة، وأُحرج الجيش الإيطالي أمام الرأي العام في بلاده بعد أن لم يتمكن من إخماد حركة بعض الثوَّار البدو غير المدربين عسكريًّا.

ما أن تجلّى لعمر المختار صحَّة ما اعتقد به منذ البداية، وهو عدم جدوى المفاوضات السياسيَّة مع الدولة المُستعمرة، حتى خاطب المجاهدين وأبناء شعبه قائلًا: «فليعلم إذًا كلُّ مجاهد أنَّ غرض الحكومة الإيطاليَّة إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطاليَّة شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قوميَّة تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوبٌ تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخصٍ وغالٍ». ثمَّ ختم المختار هذا النداء بقوله: «لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ماهي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع".

انفجر الموقف قبل ثلاثة أسابيع من الموعد الذي حدده عمر المختار لانتهاء الهدنة، فقد هاجمت مجموعة من المجاهدين دورية من الضابطيَّة وأبادتها، وتسبب الحادث في غضب الإيطاليين وبادوليو بصوره خاصَّة الذي انهارت آماله في إنهاء الثورة سلميًّا، وانزعج موسوليني وأوقف الاتصالات الجارية في مصر وأمر بالعودة إلى القوة والحرب. اتهمت إيطاليا عمر المختار بالخيانة وخرق الهدنة، وعلى الرغم من أنَّ حادث الاعتداء على الدوريَّة الإيطاليَّة كان مُحاطًا بالغموض، وتأكيد عمر المختار أنّه لم يأمر بعمل كهذا وهو الذي حدد موعد انتهاء الهدنة وهو الحريص على وعوده وتعهداته. ويُرجّح أنَّ الذي دبر الحادث هو من المستفيدين من الحرب وبعضهم كان يتعاون مع الثوّار ويبيع لهم السلاح.

وكان رد فعل الفريق أوَّل سيشلياني على قتل أفراد الدورية إرسال أربع طائرات لقصف منتجعات المجاهدين بمن فيها من نساء وأطفال وشيوخ وقد تمكن المجاهدون من إسقاط إحدى الطائرات وأسر طيَّارها، وأصدر سيشلياني بعد مرور يوم على الحادث بيانًا قال فيه: «لقد فرضت علينا خيانة عمر المختار استئناف الحرب ضد الثوَّار وسيكون قتالٌ شاملٌ بدون رحمة أو توقف ضد كل من يرفع السلاح في وجه الحكومة أو حمله بدون ترخيص، وما لبثت المعارك أن انتشرت في منطقة الجبل الأخضر حتى أُقفلت جميع الطرق، فحشد الإيطاليّون قوَّاتهم وطائراتهم وآليَّاتهم لمهاجمة وتطويق الثوَّار وإبادتهم، وتولّى الطيران الدور الأول في المعركة. لكن القوّات الإيطاليَّة فشلت في مهمتها وتمكن الثوَّار من الإفلات من عملية التطويق بفضل استماتة قوَّات الحماية كما اعترف الفريق أوَّل سيشلياني بذلك.

وكانت هذه أول معركة يخوضها بادوليو ضد المجاهدين ولم تختلف نتائجها عن نتائج المعارك التي سبقتها والتي أطاحت بثلاثة حكَّام طليان، وقد أدرك بادوليو أن خصمه شديد ومنظم وذكي ولا يُمكن التغلب عليه في حرب تقليديَّة وقد وصف بادوليو عمر المختار لوزير المستعمرات فكتب: «عمر المختار هو المحور الذي تدور حوله الثورة وهو يحظى بسلطة ونفوذ مطلقين ولا يُشاركه أحد في السلطة ولديه نواب مخلصون وملتزمون فمن المستحيل استعمال الأسلوب المعتاد لاستغلال كوامن الغيرة والتنافس والحقد التي تتوفر دائمًا حيث يوجد عدَّة زعماء، إن إرادة عمر المختار القويَّة هي التي تُملي القوانين في أي وقت وأي ظرف".

المختار وغراتسياني

لم يصدق وزير المستعمرات الخبر في البداية. وغراتسياني الذي كان متوجهًا إلى باريس نزل من قطاره ليعود مسرعًا إلى بنغازي. ثم انقلبت دهشتهم إلى فرح هستيري، والإصرار على "محاكمة فوريَّة والإعدام بصورة صاخبة ومُثيرة" كما جاء في برقيَّة دىبونو وزير المستعمرات إلى بادوليو حاكم ليبيا. لكن ما فاجأ الطليان كان هدوء الأسير وصراحته المُذهلة في الرد على أسئلة المُحققين، بثباتٍ تام ودون مراوغة، إذ قال لهم: «نعم قاتلت ضد الحكومة الإيطاليَّة، لم استسلم قط. لم تخطر ببالي قط فكرة الهرب عبر الحدود. منذ عشر سنوات تقريبًا وأنا رئيس المحافظية.
اشتركت في معارك كثيرة لا استطيع تحديدها. لا فائدة من سؤالي عن وقائع منفردة. وما وقع ضد إيطاليا والطليان، منذ عشر سنوات وحتى الآن كان بإرادتي وإذني.

كانت الغارات تُنفَّذ بأمري، وبعضها قمت به أنا بنفسي. الحرب هي الحرب. اعترف بأنه قُبض عليّ والسلاح بيدي، أمام الزاوية البيضاء، في غوط اللفو، هل تتصورون أن أبقى واقفًا دون إطلاق النار أثناء القتال؟ ولا أشعر بالندم عمَّا قمت به".

إعدام المختار

في صباح اليوم التالي للمحاكمة، أي الأربعاء في 16 ديسمبر 1931 اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأُحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المُعتقلين السياسيين خصيصًا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم. وأُحضر المُختار مُكبَّل الأيادي وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا سُلَّم إلى الجلّاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوّي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلامًا يسمعونه، لكنه لم ينبس بكلمة، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وقيل عن بعض الناس الذين كان على مقربة منه انه كان يأذن في صوت خافت أذان الصلاة عندما صعد إلى الحبل، والبعض قال أنه تمتم بالآية القرآنية "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة" وبعد دقائق كان قد عُلّق على المشنقة وفارق الحياة.

ليبيا بعد إعدام المختار

حاولت إيطاليا الاستفادة من مقتل عمر المختار، فعملت على استمالة المجاهدين إليها وإقناعهم إنَّ المقاومة لا فائدة تُرجى منها بعد أن سقط الرأس المُدبّر، لكن المجاهدين أبوا واجتمعوا وانتخبوا الشيخ يوسف بورحيل المسماري قائدًا للجهاد الإسلامي ووكيلًا عامًا للجهاد.

وعلى أثر هذا التنصيب كلَّف الشيخ عبد الحميد العبَّار بالرحيل نحو شرق البلاد للقيام بحث الناس على الانخراط في جيش المجاهدين وحمل السلاح لمكافحة الجيوش والجهاد في سبيل العقيدة الإسلامية والدين. ولم يكن لمقتل المختار الأثر الذي توقعه الطليان، فلم يخف عزمهم أو يتلاشى، بل ازدادوا تصميمًا على القتال وتحرير البلاد من المحتل الأجنبي، فواصلت الحكومة الإيطالية حملات الانتقام ضدهم، حتى كانت الموقعة الحاسمة عند الحدود المصريَّة قرب الأسلاك الشائكة، فاجتاز الأسلاك بعض المجاهدين وقتل منهم عدد وأُسر عدد آخر، ولم يبقى إلّا الشيوخ القادة الأربعة، وهم عبد الغفار العبار ويوسف بورحيل وعصمان الشامي وحمد بوخير الله. فقُتل الأخير ويوسف بورحيل وجُرح عصمان الشامي فأخذ أسيرًا، وأما عبد الحميد العبَّار فاستطاع أن يجتاز الأسلاك الشائكة بجواده نحو مصر. وبهذه النهاية انكسرت شوكة المجاهدين وتعثرت خطواتهم وأخمدت حركة الجهاد في ليبيا، واستتب الأمر لإيطاليا حتى حين، فعملت على خلق هويَّة جديدة للبلاد وحاربت الإسلام بعدة وسائل طيلة 11 عامًا، لكنها سرعان ما انشغلت بنشوب الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها خاسرة بعد بضع سنوات، وانسحبت كليًّا من ليبيا بتاريخ 7 أبريل عام 1943.

 

 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    اعلان