رغم بلوغه الـ 80 عامًا مازال اللواء باقي زكي يوسف صاحب فكرة طلمبات المياه في فتح ثغرات خط بارليف (الساتر الترابي)، يحتفظ بروحه الشبابية المرحة، ومازالت ذاكرته تعمل بكامل قواها، يتحدث عن سيناء بلهفة العاشق الذي أمضى فيها أحلى سنوات عمره وطفولته حيث كان أبوه موظفاً بالعريش .
اللواء باقي زكي الذي قال له قائده "أنت إدتنا الطفاشة اللي فتحت بوابة مصر"، يحكي لـ"مصر العربية" عن كواليس فكرته وكيف وافق عليها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في عام 1969، مؤكداً أن مصر مازالت محتفظة بمعادنها البشرية الأصيلة فالشباب هم من حرروا سيناء وهم من قاموا بالصورة وحرروا مصر مرة أخرى من دولة الظلم.
كيف خطرت ببالك فكرة هدم الساتر الترابي بالماء ؟ وهل كانت توجد اقتراحات أخرى ؟
نقلنا إلى جسم السد العالي حوالي 10 ملايين متر رمال أي ربع جسم السد العالي عن طريق التجريف، أي نقل الرمال المناسبة بمضخات المياه من الجبال لتسقط في حوض "خليطة" وتنقلها الطلمبات إلى السد، وعندما تم إلغاء انتدابي من السد العالي بعد النكسة عدت إلى سيناء، وفي مايو 1969 صدرت الأوامر العليا بالاستعداد للاقتحام في أكتوبر من نفس العام ، وكانت أهم مشاكلنا الساتر الترابي.
حينها عقد قائد فرقتي اللواء سعد زغلول عبد الكريم، اجتماعا للفرقة شرح فيه مهمة العبور أمام رؤساء متخصصين من مختلف القطاعات، مثل العمليات والاستطلاع والمهندسين، وهم من كانوا يتحدثون في البداية، وتم شرح طبيعة الأرض والعدو ووحداته، أما قطاع المهندسين فقام بشرح مكونات خط باريف ونقاط القوة وأماكن الأسلاك الشائكة وحقول الألغام وأماكن القوات الاحتياطية خلفه على مسافة 3 و 5 و 8 كيلو، ودورها الرد على الهجمات المضادة بالتعاون مع المدفعية والطيران.
واتضح خلال الاجتماع مدى صعوبة اختراق ذلك الساتر، حيث كان امتداده من السويس لبورسعيد وارتفاعه من 12 : 21 مترا أي ما يعادل 7 أدوار، وعرضه من 8: 12 مترا أي 3 أدوار، ميله في اتجاه القنال 80 درجة ( تقريبا زاوية قائمة)، وصمموه بتلك الزاوية ليصبح مكملاً مستقيما للقناة، حيث إن دليسبس حفر القناة بزاوية 80 درجة .
بعدها شرح اللواء طلعت مسلم الخبير الاستراتيجي الحالي، كل الطرق المقترحة لإزالة الساتر، من مفرقعات ومدفعية مكثفة بل إن خبراء أجانب أكدوا أن هذا الحصن المنيع العائق بين اقتحامنا لسيناء حله الوحيد القنابل الذرية، ورغم أنني مهندس ميكانيكا مهمتي إصلاح المركبات إلا أنني اقترحت في الاجتماع طريقة فتح الثغرات، فاعترض قائد فرقتي لأنها ليست تخصصي إلا أن اللواء طلعت سمح لي بالحديث لعل الفكرة تصيب.
فعرضت فكرتي قائلا إن الساتر عبارة عن كثبان رملية طبيعية وإذا كان الله سمح بالمشكلة، فإنه جعل لنا حلها أسفلها، سوف أزيل الساتر الترابي بطلمبات "ماصة كابسة" مثبتة على زوارق خفيفة تسحب الماء من القنال وتضخها بقوة اندفاع كبيرة من خلال مدافع ماء على الساتر الترابي في الأماكن التي نريد فتح ثغرات فيها وسيقوم الماء بقوة اندفاعه بتحريك الرمال لتسقط في القنال ولن يسبب لنا إزالتها أي عائق، بذلك سيتم فتح الثغرات في الأماكن المرادة بالارتفاع المطلوب .
وكيف كان رد القيادات الموجودة في الاجتماع ؟
صمت تام لو قعت فيه إبرة يسمع لها صوت، فشعرت للحظة وكأنني خرفت، فبادرتهم قائلاً: "على فكرة الكلام ده حصل في السد العالي، وحركنا 10 ملايين متر مكعب من رمال الجبل إلى جسم السد"، فطلب مني قائد العمليات شرح طريقة نقل الرمال وبعد أن أوضحتها له وشرحت له أنني لن أستخدم تلك التقنية كاملة لأنني لن أحتاج لنقل الرمال التي ستنزل إلى القناة تلقائياً، وشرحت له أن قانون نيوتن الثاني يحقق لي ما أقصده ويضمن نجاح هدم الساتر الترابي، فملأ الاطمئنان قلوب وعقول الحضور، وفتح قائد الفرقة باب المناقشة.
حينها عمد الجميع على إيجاد حلول للمشاكل المتوقع أن تصادفنا، فأسفرت المناقشة عن أنه لا توجد مشكلة من عودة الرمال إلى المياه في القناة في مراحل العبور الأولى، لأننا من الممكن أن ننحي الكباري جانباً، وبعد فتح الثغرة في الساتر ستصبح الأرضية بها مياه ولا تصلح لعبور بعض الأسلحة، فاتفقنا على أن أسبقية العبور للمجنزرات لتأمين المشاة من الداخل.
بقى لنا مشكلة الطلمبات الكبيرة، فأكدت أنني أريدها أصغر حجماً بقوة اندفاع كبيرة، نظراً لأنني أريدها لدفع المياه فقط وليس لنقل التراب مرة أخرى كما يحدث في السد، وبالتالي أضمن تأمين نقلها إلى الضفة لصغر حجمها، فارتاح قائد الفرقة للفكرة خاصة وأن الحلول الأخرى كانت أكثر تكلفة في الخسائر البشرية التي قدرت بـ 20% من الجنود، فضلاً عن التكلفة المادية.
بما أن الفكرة كانت مبتكرة، هل لاقت قبولاً سريعاً لدى القيادات العليا؟
تدرجت في عرض الفكرة حتى وصلت إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ووافق عليها ضمن خطة النصر، فقائد فرقتي اصطحبني إلى قائد الجيش أشرح له الفكرة، ثم أحضر إلينا رئيس فرع هندسي، وشرحت له الفكرة، ثم طلبوا مني تقريراً مفصلاً علمياً عن الفكرة، فذهبت إلى وزارة السد العالي بمنطقة المهندسين بالقاهرة، وحصلت على بعض النشرات واللوح التي كانت توزع دعاية للسد العالي أثناء بنائه، وقدمت التقرير بناء على المادة العلمية.
ولحسن الحظ عرض قادتي المادة العليمة في اجتماع مع الزعيم عبد الناصر ثم وافق على تنفيذها بعد دراستها وإجراء التجارب عليها التي وصل عددها إلى 300 تجربة على مختلف أنواع الطلمبات والأراضي، كانت أولها في حلوان في سبتمبر 1969 على ساتر ترابي وإحدى طلمبات السد العالي وتم إزالته في حوالي 3 ساعات، وبالفعل تم استيراد طلمبات بمواصفات عالية وخاصة لتنفيذ المهمة .
ما الخسائر التي وفرتها طلمبات المياه أثناء العبور؟
أولاً: وفرت خسائر في الأوراح، لأنه كان مقدرا عبور أول يوم 85 ألف جندي بخسارة تبلغ 20% أي ما يقرب من 20 ألف شهيد رجعوا جميعهم أبطالاً، ولم يسفر العبور في أول يوم عبر الثغرات إلا عن 78 شهيداً فقط.
ثانياً: الوقت، فالبدائل الأخرى كانت تستغرق من الوقت 15 ساعة في المتوسط، ولكن الطلمبات كانت مدة فتح الثغرة متوسط فتح الثغرة 3 ساعات ونصف، فنحن بدأنا العبور إلى خط بارليف الساعة 2:20، وفتحت أول ثغرة الساعة 6 ، والساعة 10:30 مساء تم فتح 60 ثغرة وسقط في مياه القناة 90 ألف متر مكعب رمال من الساتر الترابي شرق القنال ، وفي الساعة 8:30 ليلاً عبر لواء مدرع من معبر "القرش" شمال الإسماعيلية من ساتر ترابي ارتفاعه 20 متراً، وفاجأ قائد فرقته بأنه عبر قبل ميعاده.
وبالتالي انطلقت سريعا القوات المجهزة وأنجزنا في وقت الهجوم مما ساعد القوات على إرباك العدو، حيث لم تقم إسرائيل بالهجمات المضادة إلا متأخراً فهم لم يستطيعوا السيطرة على الهجوم، مما أدى إلى فشلهم في إحباط الهجوم، وبالتالي قلل من خسائرنا في المعدات والأفراد.
هل ترى أن أبطال أكتوبر لقوا تكريماً يستحق ؟
التكريم يمنح ولا يجوز التسول من أجله.
أنا شخصياً لقيت تكريمي من الله عندما ألهمني بالفكرة، وعندما نجح تنفيذها وكانت سبباً رئيسياً من أسباب انتصارنا، لذا لا أنظر إلى التكريم العادي، وراض عن التكريم الذي رأيته بعيني في 80 ألف جندي يعبرون من الثغرات كأنهم دماء تعبر مجرى الشرايين، كما أنني عندما أردت تسجيل الفكرة باسمي قال لي قائد فرقتي اللواء سعد زغول ثم كلمني في منزلي قائلاً "يا باقي أنا النهاردة مضيت أشرف إمضاء في حياتي العسكرية إنت إدتنا الطفاشة اللي فتحت بوابة العبور"، كما أنني حصلت على نوط الجمهورية من الدرجة الأولى لأعمال استثنائية في الجيش عام 1973 .
من الحين للآخر تشتعل فتنة طائفية قد ينتج عنها تهجير أقباط من ديارهم، هل ترى أن المسيحيين مضطهدون في مصر ؟
أنا مسيحي ولم أشعر أبداً طوال عمري الذي بلغ الـ 80 عاماً، بفارق بيني وبين أي مسلم، ولم يسألني أحد عن ديانتي ولم أسأل أحد، تربينا منذ الصغر على أننا جميعاً إخوة، ولكن هناك من يهاجموننا، نظراً لأننا شعب ذو عواطف دينية وبه نسبة كبيرة من الجهل، فهوجمنا من كل اتجاه باسم الدين فأوقعوا بين الشعب مسلم ومسيحي لأن عدونا يعلم جيداً أن هذه نقطة ضعفنا الوحيدة.
من خلال رؤيتك كأحد أبطال حرب أكتوبر .. كيف اختلفت مصر من عام 73 حتى 2013 ؟
لقد عملنا كثيراً وتدربنا ولم نتحدث، ولكن هذه الفترة التي نعيشها كلها مجرد كلام، والله أعلم إذا كانت الوعود ستنفذ أم لا، وعلى المسئولين أياً كانت خلفيتهم السياسية أن يفهموا أن الله لن يوفقهم إن لم يتقوا الله في مصر .