هيكل كان أحد أدوات إحباط محاولة تحسين صورة الرئيس نجيب
وعند وقوع انقلاب 23 يوليو 1952 الذي أدار وقائع أحداثه ضباط CIA بقيادة كيرميت روزفلت من قلب السفارة الأمريكية بالقاهرة، كان الإعلام محصوراً في ثلاث وسائل: الصحف والإذاعة والجريدة الناطقة. لم تكن الصحف بطبيعتها مؤثرة في السواد الأعظم من الشعب، الذي ارتفعت نسبة الأمية بين أفراده.
لم تكن الإذاعة أفضل حالاً، فلم تكن أجهزة مذياعها متوافرة سوى في قصور الباشوات ودواوير العمد وبيوت الأعيان وموظفى الحكومة وبعض المقاهى الكبرى. وكانت الجريدة الناطقة تعرض قبل عرض الأفلام في دور السينما، وتخاطب شريحة محددة من سكان المدن حيث توجد دور العرض.
ومع الساعات الأولى للانقلاب الذي أُطلق عليه آنذاك "حركة الجيش المباركة"، حرص مدبروه (الأمريكان) على أن يمنحوه وجها طيباً؛ فكان محمد نجيب. ومن جانبهم، أعلن الإنجليز والأمريكان أنهم لن يتدخلوا ما دامت أرواح الأجانب في سلام، ومادامت الحركة ليست موجهة إلى القوات البريطانية في القناة"، ورد نجيب التحية بأحسن منها فأعلن أن "القضية الفلسطينية لا تعنيه في شئ".
فى 15 يناير 1953 أعلنت هيئة التحرير أول بيان لها عن ميثاقها وأهدافها القومية ومناهجها في السياسة الداخلية والخارجية، وأظهر البرنامج ضحالة فكر الضباط.
فعن السياسة الخارجية اقتصرت على عبارة "دعم الصلات مع الشعوب العربية للوصول إلى تحقيق التعاون في شتى الميادين، وتعزيز ميثاق جامعة الدول العربية". ولم يرد في الميثاق أي شئ عن فلسطين! وتحدث الميثاق عن "تمكين السودان من تقرير مصيره دون أدنى تأثير خارجى".
أكذوبة الأسلحة الفاسدة
حرص نجيب على الترويج لأكذوبة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، والتي اتخذها ضباط الانقلاب ذريعة له. كما حرص على الظهور في زي عسكري حاملاً عصاه المارشالية، وبايب يتدلى من زاوية فمه بصفته قائداً للحركة، مع أخبار متناثرة عن كونه أيضا سليل أسرة عسكرية عريقة، وبدأ الترويج الشعبى له بمونولوج إسماعيل ياسين الشهير "20 مليون وزيادة، والجيش ونجيب عملوا ترتيب"، رغم أن الشعب المصرى كان تعداده آنذاك 18 مليونا فقط، ولم يكن قد بلغ العشرين، كانت كلمة "ترتيب" تعنى الحدث الذي يدبر في الخفاء بما يعنى الانقلاب.
وطبقاً للخطة الأمريكية المرسومة في خلق" العدو البديل" بدلاً من العدو الصهيونى الذي هزم الجيوش العربية والتهم الجزء الأكبر من أرض فلسطين، ولم يكن أمامهم من عدو سوى بعض الساسة ورجال الدولة والرأسماليين وكبار الملاك ورفع شعار التطهير الذي روج له بمونولوج ثريا حلمى: "خش على التطهير". إلا أن ذلك كله لم يكن كافيا.
ففى 4 يوليو 1953 كان إنشاء إذاعة صوت العرب بأموال ومعدات أمريكية، وخبراء من حثالة النازيين من تلاميذ جوزيف جوبلز الذين استجلبهم الأمريكان من مخابئهم في البرازيل والأرجنتين وأيرلندا وأسبانيا بعد غسل شخصياتهم وطمس تاريخهم الإجرامى ومنحهم هويات مزورة بأسماء إسلامية.
وكان المشرف على ذلك الملف الضابط المصرى سعد عفرة؛ ضمن رؤية للتوافق مع المصالح الأمريكية في المنطقة، ودعم توجهات الشركات الأمريكية في المنطقة الواعدة بالنفط، وتوفير غطاء من حماية لدولة إسرائيل قوامه عجز دول الجوار بجعلها تحت قيادات مصنوعة أمريكيا. وقد تم تغليف تلك النوايا بدعوات براقة استترت بغطاء تجميع القوى العربية تحت راية الهدف الواحد والمصالح المشتركة وتحرير فلسطين.
وقد أثبتت الأيام أن "صبيان القاهرة أوJuniors Of Cairo كما كان يصفهم أيزنهاور - طبقا لتسمية مرؤوسه ستيفن ميد - لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاه إسرائيل.
ومثلما فعل الأمريكان مع صبيان القاهرة، فقد أنشأوا إذاعات مماثلة في الرياض وعمان قامت بإشعال حالة من التلاسن وتبادل التراشق اللفظى فيما بينها وبين القاهرة للدفع بما يخدم مصالح إسرائيل التي تحققت بأكثر مما كانت تحلم في صباح 5 يونيو 1967.
الصورة الذهنية لنجيب
حرص مدبرو الانقلاب على أن يمنحوا حركتهم وجهاً طيباً يخفي شرورها؛ فجعلوا اللواء نجيب قائده، وتماهى نجيب مع ظاهر الدور المرسوم؛ فحرص على أن يبدو في صورة المتدين الذي يحرص على أداء الصلوات في المساجد الكبرى، التي تضم رفات الأولياء، والجلوس في خشوع لسماع خطبة الجمعة، وإظهار الود والتوقير لفضيلة الإمام الأكبر؛ فشيخ الأزهر دائماً هو المفتاح السحري للدخول إلى قلوب المصريين، وأيضا لا يأنف الذهاب إلى المحفل الماسونى للتهنئة بالعيد ليؤكد أنه جاء رئيساً لكل المصريين، والتركيز على أن يبدو ودوداً مع الجميع، فهو يعامل الجميع بتواضع وطيبة قلب، ولا يأنف الجلوس إلى جوار عامتهم والتربيت على أكتافهم.
محمد نجيب07.jpg" style="width: 425px; height: 450px;" />
محمد نجيب02.JPG" style="width: 500px; height: 527px;" />
ولم يغفل نجيب توظيف الصورة الفوتوغرافية في خلق صورة ذهنية له رسخ من خلالها أنه يعيش حياة بسيطة مثل أواسط الناس من خلال دعوته لمصور مجلة "المصور" أحمد سليمان في سبتمبر 1953 لتصوير أحداث يوم من حياته ظهر فيه بالروب والبيجاما والقبقاب وصابون الحلاقة. وقد أثارت الصور إعجاب العامة وحبهم لرجل منهم يحكمهم ويحيا حياة بسيطة مثلهم بعيداً عن بذخ القصور وتيه السلطان.
محمد نجيب06.JPG" style="width: 500px; height: 506px;" />
محمد نجيب04.JPG" style="width: 500px; height: 709px;" />
غير أن الشعب المصرى أدرك مبكراً تحول الثورة إلى الديكتاتورية، وأنها حلت محل القصر لتبيع للشعب نفس البضاعة الفاسدة التي كان يروج لها القصر، وهى بضاعة الطعن على الحياة الديمقراطية. وأدرك الشعب مدى الخديعة. فالحركة قد خلعت ملك لتنصب مكانه إثني عشر ملكا هم من أسموا أنفسهم بـ"الضباط الأحرار"، وأحس الشعب أن الحركة لم تبدأ اشتراكية تهتم بخدمة الطبقة العاملة كما كان يتوهم، وإنما بدأت "ذات توجه" بورجوازي ديمقراطي" حتى 23 يوليو 1963؛ فلم يكن قانون الإصلاح الزراعى سوى مطلباً أمريكيا.
محمد نجيب01.jpg" style="width: 400px; height: 249px;" />
كانت الخطوة الثانية بعد قوانين الإصلاح الزراعي هي شنق عمال كفر الدوار، وهما إجراءان متكاملان. كان الهدف هو توجيه رؤوس الأموال المحبوسة في الملكيات الزراعية إلى الاستثمار في الصناعة، فلما قام عمال كفر الدوار بحركتهم غير المتوقعة توهماً أنها حركة اشتراكية، عكست هبتهم عدم إدراك أهداف الانقلاب من الإصلاح الزراعي.
كان هدف الإصلاح الزراعي نقل المجتمع المصرى إلى مرحلة الرأسمالية الخالصة؛ وليس نقله إلى مرحلة الاشتراكية التي تسيطر عليها الطبقة العاملة. ولهذا السبب، ولإعادة الطمأنة إلى قلب الرأسمالية المصرية؛ فقد كان على مجلس قيادة الثورة التفكير في خلع قلب الطبقة العاملة، وإخراجها من دائرة العمل النقابي، والتأثير سلبا على حقها في المطالبة بالحقوق والاعتصامات والإضرابات طوال المرحلة التاريخية القادمة.
وبعد تصويت مجلس قيادة الحركة على الحكم بإجماع الآراء (حيث لا صحة لما ادعاه يوسف صديق وخالد محيى الدين)، وبعد أن ألقى أنور السادات في جلسة التصديق خطبة عصماء تمنى فيها أن:" تتاح الفرصة لشنق عاملين في المحلة الكبرى، وآخرين في شبرا الخيمة، وثالثين أمام جامعة القاهرة ليرتدع الجميع؛ وحتى نستطيع حماية حركة الجيش المباركة من أعدائها"، صدق نجيب على حكم إعدام العمال الفقراء قائلا: "دول شوية عيال ولاد كلب شيوعيين يستهلوا الحرق"، وذهب ليحتفل بتوليه رئاسة الوزارة.
شعر الشعب أنه انتقل من أوتوقراطية القصر إلى ديكتاتورية الجيش، وأخذ يعبر عن معارضته لحركة الضباط، وبدأت صورة محمد نجيب تهتز، وهو الذي اشتهر بتقبيل الأطفال؛ ليبدو وكأنه الأب الروحي للشعب المصري، فأطلقت عليه النكات التي تدور حول أنه يعمل "Baby Sitter"؛ أي جليس أطفال، أو "Baby Kisser"؛ أى بايس العيال، إضافة إلى شائعات أخرى انتهكت عرض الرجل وطعنته في شرفه؛ لا مجال لذكرها.
لكن مما تجدر الإشارة إليه أن هذه النكات كان بعضها يصدر من السفارة الأمريكية وبعضها من دار "أخبار اليوم" حيث أسس مصطفى أمين ما أسماه بـ"مجلس النكتة"، وضم في عضويته كل من مأمون الشناوى وجليل البندارى ومحمد عفيفى وصاروخان ورخا، ورصد أمين مكافأة لكل محرر يأتيه بأحدث نكتة. وتولت محاسن سعودى زوجة الصاغ عبد المنعم أمين؛ جلاد كفر الدوار حكاية تلك النكات وسط نساء نادى السيارات بقلب العاصمة!
أدى نجيب الجزء الأول من الخطة بعلم ينفى عنه أى جهالة، ثم أصبح عبئاً يجب الخلاص منه. وعندما أحس نجيب بقرب النهاية، فأسرع إلى أصدقائه الأمريكان عبر صديقه لى رايت: مؤلف كتاب محمد نجيب؛ ليطلب دعمهم ويتهم خصومه من الضباط بأنهم شيوعيون وضد المصالح الأمريكية، وجاءته الإجابة أشبه بنكته؛ فقد كان الأمريكيون يعرفون الكثير عن اتصالاته بالمخابرات البريطانية، وأن المخابرات البريطانية هي التي اختلقت حكاية الشيوعية وحاولت دسها على المخابرات الأمريكية.
وكان حادث المنشية ضمن خطة إعلامية قادها باول لينباجر خبير البنتاجون في الدعاية السوداء؛ لتقديم عبد الناصر إلى الجماهير في الصورة التي ظهر بها لاحقا. حيث يؤكد كوبلاند: "أن الخارجية الأمريكية تتواصل مع نجيب عبر سفيرها كافرى لتسليمه الرسائل الروتينية، بينما الحوار الحقيقى مع ناصر بواسطة قناة "وليم ليكلاند وهيكل".
هيكل و"تحلية السموم"
أشاد كوبلاند في كتابه لعبة الأمم بدور هيكل في تحلية السموم، قائلا: "كان هيكل بارعاً في نقل الطلبات، وكان يجيد طلاؤها بقشرة من الحلوى ليتقبلها الجانبان: ناصر والأمريكان". وأعاد كوبلاند ما سبق ذكره في كتاب آخر بعنوان "بغير عباءة أو خنجر"، فقال: "كان هيكل عميلاً مخلصا". وأشار ويلبر كراين إيفيلاند في كتابه "حبال الرمال" إلى نفس الفكرة، قائلا: "كان هيكل عميلاً ممتازاً، وكان حاذقاً في نقل التوجيهات".
وقد اتهم اللواء محمد نجيب هيكل في كتابه بعنوان: "كلمتي للتاريخ" بالخيانة لحساب دولة أجنبية، ولم يتحرك هيكل لمقاضاته في حياته، مثلما فعل معه نجيب عندما دس عليه حكاية الثلاثة ملايين دولا التي قدمها الأمريكان رشوة شخصية لعبد الناصر!
وقد اتهمه الرئيس السوفييتى هيكل بنفس التهم، أثناء مرافقته لناصر في زيارة للإتحاد السوفييتى عام 1957، وذكر قيمة المبالغ والشيكات التي تسلمها من CIA؛ عندما حاول هيكل ممارسة اللعبة لحساب الأمريكان تحت غطاء مهمة صحفية بـعنوان: "المجتمع السوفييتي عن قرب"، لكن أسئلته قد كشفته، فأبلغ عنه كل من السائق والمرافق، وأمام هذا الحرج، طلبت السلطات السوفييتية من ناصر ترحيله من موسكو على أول رحلة لمصر للطيران، ولكن عبد الحكيم عامر أصر على أن هذا غير جائز لكونه ينطوي على إهانة للوفد الرسمي المصري. وبعد مفاوضات، تم التوصل إلى حل أرضى الطرفين.
نجيب تحت الاختبار
كان اختيار الأمريكيين لعبد الناصر نابع من اختبارات شديدة التعقيد، بعضها متعلق بتاريخ حياته منذ الطفولة وما ارتبط بها من مكونات نفسية، والعقدة التي أورثته حالة الانطواء، لكن الأهم من ذلك كله أنه شخص متعطش للسلطة، ولا يقبل التفريط فيها بأى ثمن وتحت أى ظروف وهو ما أثبته الواقع. ولكن التجربة قد أثبتت أن اللواء نجيب أكثر نهماً للسلطة، ففى يوم 18 يناير 1953؛ أصدرت حركة الجيش مرسوما بقانون حصنت نفسها ونظامها وقرارتها ضد رقابة القضاء باعتبارها من أعمال السيادة العليا.
وفي 10 فبراير 1953، أكملت الحركة استيلاءها على السلطة من الناحية القانونية بموجب دستور لفترة انتقالية (ثلاث سنوات كما نص عليها قانون حل الأحزاب). هذا الدستور جعل السيادة العليا في الدولة في يد "قائد الانقلاب الذي أصبح ثورة"، وجعل له الحق في تعيين الوزراء وعزلهم ووضع السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد مجلس الوزراء.
وقد دفع كافرى بامرأة انجليزية من عملاء CIA للاقتراب من نجيب بغرض كتابة تقرير مفصل عنه، وجاء في هذا التقرير أنه: "شيطان بصورة مبهجة، وبشع لكن بقدسية، ويغطى ذلك بابتسامة حارة. إنه مظهر الأب المثالي للمصريين".
ويقول لى وايت مؤلف كتاب "محمد نجيب": "لم تكن الأقوال البليغة التي اشتهرت عن نجيب سوى شعارات من إبداعي". ويضيف: "لم يكن نجيب أكثر من عمدة قرية ماكر". ووصفه في موضع آخر بـ"المحتال الودود".
لم تفلح محاولات نجيب في غسل سمعته عبر مذكراته التي ضمنها كتابين أحدهما بعنوان: "كنت رئيساً لمصر"، والآخر بعنوان: "شهادتي للتاريخ"، حاول فيهما الترافع عن نفسه أمام محكمة التاريخ؛ مستعينا بدراسته القانونية في كلية الحقوق، لكن أكاذيبه خذلته!
تابع بقية ملفات الدراسة:
مقدمة الملف: سرقة العقول.. وصناعة الوهم
محمد علي باشا.. رفض استكمال "الأمير" لأنه تفوق عليه
ناصر والمخابرات الأمريكية.. واللعب بصور الحكام
السادات.. الرحلة من الصورة الجذابة إلى الرئيس "خيشة"
مبارك.. صورة الرئيس "الأُشلاء"
العملية أجاكس.. مرسي.. رئيس هزمته الصورة
الرئيس السيسي.. الصورة والشائعة لعبة أجهزة المخابرات