* بداية.. ما الذي يحدث في إفريقيا الوسطى؟ ولماذا؟
باختصار شديد.. معارك واقتتال طائفي بين المسلمين والمسيحيين، خلّف آلاف القتلى والمصابين من الجانبين، ومئات الآلاف من المهجرين، فضلاً عن تدمير عدد من دور العبادة (مساجد وكنائس).
وبدأت شرارة هذا الاقتتال في مارس 2013 عندما أطاح مسلحو تحالف "سيليكا"، الذين أغلب عناصرهم من المسلمين، بالرئيس المسيحي "فرانسوا بوزيزى" الذي تناصره ميليشيات "مناهضو بالاكا" المسيحية.
كان هذا للإجابة على الشق الأول من السؤال "ما الذي يحدث"؟ أما الإجابة على الشق الثاني، لماذا؟ فتحتاج إلى شيء من التفصيل، نوضحه في النقاط التالية:
* نبذة مختصرة عن إفريقيا الوسطى:
إفريقيا الوسطى: دولة حبيسة، لا تطل على أي بحار أو محيطات، ولا تمتلك أي موانئ، لكنها غنية بثرواتها، فهي تمتلك موارد معدنية هائلة، وتعد مركزًا تجاريًا عالميًا للألماس، إضافة إلى مناجم الذهب واليورانيوم والنفط الخام، إلى جانب الخشب والأراضي الزراعية.
لكن وبالرغم من مواردها الضخمة، إلا أن إفريقيا الوسطى هي واحدة من أفقر البلدان في العالم وبين أفقر 10 بلدان في إفريقيا.
نادرًا ما عرفت الاستقرار هذه البلاد، فالانقلابات المسلحة والاستيلاء على السلطة بالقوة شيء يمكن وصفه بالمعتاد، فمنذ أن أطلقت (الجمعية الوطنية الفرنسية) اسم (إفريقيا الوسطى) على الدولة رسميًا في سبتمبر 1958، وهي تمر بسلسلة من الانقلابات كانت تنتهي دائمًا بحكم المتغلب بقوة السلاح.
ففي عام 1966، أي بعد ست سنوات فقط من استقلال ذلك البلد الصغير عن فرنسا، قام الضابط (جان بيديل بوكاسا) بالانقلاب على (دافيد داكو)، ثم قام الأخير في عام 1979 بانقلاب عسكري آخر ضد بوكاسا، الذي كان قد نصّب نفسه امبراطورًا.
ولم تتوقف سلسلة الانقلابات، ففي عام 1981 تسلم مقاليد الحكم الجنرال (آندريه كولينجبا)، وظل ممسكًا بها إلى أن أطاح به (فيليكس باتاسيه) مرشح المعارضة في أول انتخابات رئاسية تشهدها البلاد عام 1993، ثم أطيح بهذا الأخير على يد (فرانسوا بوزيزي) في عام 2003 ليطاح به هو أيضًا في مارس 2013 على يد زعيم تحالف سيليكا (ميشال دجوتوديا).
وكان (دجوتوديا) هو أول مسلم يصل إلى كرسي الحكم، إلا أنه استقال من منصبه تحت ضغوط فرنسا وحلفائها الإقليميين يوم 10 يناير 2014، لتحل محله (كاثرين بانزا) رئيسة بلدية بانجى السابقة.
* التركيبة السكانية
عدد سكان إفريقيا الوسطى 5 ملايين نسمة تقريبًا، تبلغ نسبة المسيحيين حوالي 50%، وقد ظل الحكم في البلاد منذ استقلالها في يد الغالبية المسيحية.
أما المسلمون فهناك تضارب في نسبتهم، يتراوح هذا التضارب بين 15 إلى 35%.
ينتشر الإسلام بين الجماعات المستعربة وجماعات البيل والبورورو، في الشمال، كما ينتشر بين الجماعات التي تعيش في الشرق والوسط.
أما بقية السكان فإنهم وثنيون يدينون بما تسمى "ديانات محلية"، الظاهرة الأكثر لفتًا للأنظار في إفريقيا الوسطى هي تعدد القبائل، فهناك 80 قبيلة مختلفة.
* تحالف مقاتلو "سيليكا"
"سيليكا" هو تحالف تشكل من عدة فصائل مسلحة معارضة لحكم الرئيس (فرانسوا بوزيزى)، أغلبهم من المسلمين، ويقال إن هذا التحالف يعود إلى حرب الأدغال (2004-2007).. يُعتقد أن بعض أعضاء التحالف من تشاد والسودان، ويوجد من بين عناصره أعداد ليست قليلة من المسيحيين.
لا يوجد ما يدلل على أن تحالف "سيليكا" يتشكل من جماعات إسلامية دعوية أو جهادية، ويصعب الوقوف على أي خلفيات أو مظاهر دينية لأعضائه، اللهم إلا أن بعض قادته يجيدون الحديث باللغة العربية.
في زيارة قامت بها (وكالة الأناضول) لمعسكر سيليكا في "بييل" بالعاصمة بانجي، أكدت أن المعسكر كان يضم نحو 2172 عنصرًا من مقاتلي سيليكا، بينهم 400 من المسلمين، والباقي مسيحيون، حسبما أشار الجنرال (يايا إسكوت) قائد المعسكر، وبينما كان مراسلو (الأناضول) يتجولون داخل المخيم، كان بعض الجنود يستمعون للموسيقى السودانية، فيما كان البعض الآخر يهم إلى الوضوء استعدادًا لأداء الصلاة.
يقدر تعداد مقاتلي سيليكا بنحو 25 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات، ويتزعم الائتلاف ميشال دجوتوديا (الذي كان يحمل اسم "محمد ضحية"، قبل أن يغير اسمه)، وهو أول رئيس مسلم، تولى الحكم بعد سيطرة قواته على العاصمة والقصر الرئاسي وفرار الرئيس المسيحي (فرانسوا بوزيزي)، في 24 مارس 2013.
في 13 سبتمبر 2013، قام الرئيس دجوتوديا رسميًا بحلّ قوات "سيليكا"، كما تم الإعلان عن دمج بعض مقاتليهم في الجيش.. لكن ـ على ما يبدو ـ لم يفلح الحل، ولم يكن الدمج في الجيش فعالاً، فبقيت القوات محتفظة بقياداتها وبتماسكها.
في الـ9 من ديسمبر 2013، أقدمت القوات الفرنسية بالتعاون مع القوات الإفريقية الموجودة في البلاد على نزع أسلحة أكثر من سبعة آلاف من مقاتلي سيليكا، ووضعهم في ثكنات مختلفة بالعاصمة.
وهو إجراء أغضب المسلمين، باعتبار أن هذه القوات كانت تمثل لهم شيئًا من الحماية في مواجهة الميليشيات المسيحية.
ولذلك نظم المسلمون احتجاجات في بعض شوارع العاصمة، منددين بالانحياز الفرنسي لصالح المسيحيين، وأقاموا المتاريس بالإطارات والحجارة، احتجاجًا على انتشار القوات الفرنسية، وقالوا إن هذا الأمر يترك المسلمين عزل بدون حماية من ميليشيا (مناهضو بالاكا).
كما ظهرت احتجاجات أخرى ضد القوات الفرنسية عقب مقتل ثلاثة من مقاتلي سيليكا في اشتباكات مع الفرنسيين.
ومن جهته، قال زعيم سابق في سيليكا واسمه (ساودي): "العملية العسكرية الفرنسية منحازة، إنهم يقتلون الناس المحسوبين على جهة معينة، ويسمحون بإعدام الناس".
* مناهضو بالاكا
(مناهضو بالاكا) أو (مناهضة السواطير بلغة السانغو)، تعرف أيضًا بالميليشيات المسيحية للدفاع الذاتي. وهي جماعات مسلحة محلية أنشأها الرئيس المسيحي (فرنسوا بوزيزي)، وتضم في صفوفها بعض جنود الجيش الذين خدموا في عهد بوزيزي.
وقد مارست (بالاكا) عمليات قتل وحشية ضد المدنيين المسلمين، بالرغم من عجزها عن تحقيق أي نتيجة أمام تحالف (سيليكا).. وتضمنت جرائم هذه الميليشيات بحق المسلمين حرق الجثث وبتر الأعضاء وتدمير المساجد وتهجير أعداد كبيرة من السكان المسلمين.
* دور الدين في الصراع
في ظل شُح المصادر والمعلومات المتوفرة حول حقيقة الأوضاع في إفريقيا الوسطى، يصعب الوقوف على دافع ديني أو عقائدي خلف الصراع في البلاد، وذلك بالرغم من الطائفية الواضحة التي برزت إلى السطح بين المسلمين والمسيحيين، وأخذت أشكالاً من العنف غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين مكونات المجتمع هناك.
فمنذ فترات طويلة كان المسيحيون والمسلمون يتعايشون في وئام، يقول ديفيد سميث، من مركز أوكابي للاستشارات الإعلامية في جوهانسبرغ: "لم تشهد جمهورية إفريقيا الوسطى من قبل مواجهات تقوم على أساس ديني".
إلى أن تشكلت مجاميع مسلحة من الطرفين بدأت في شن هجمات ضد بعضها البعض وضد المدنيين، ضمن صراعات سياسية من أجل السيطرة على الموارد أو لتحقيق بعض المكتسبات.
في تقرير ميداني لها، تنقل وكالة رويترز عن المواطنة المسلمة عائشة عبد الكريم، 31 عامًا، قولها: "لم نعهد أعمال عنف بهذه الوحشية من قبل.. لقد تملك الشيطان من بلدنا".
أم كريستين، وهي سيدة مسيحية، فتقول: "كنا نعيش دائمًا مع بعضنا البعض، وكان زوجي مسلمًا، كما أن أحد جيراننا من المسلمين هو من ساعدني للوصول إلى الملجأ هربًا من القتال".
وتساءلت قائلة: "لا أفهم ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع"؟ حسبما نقلت شبكة "بي بي سي" البريطانية.
أما وكالة الأناضول، وقد زارت معسكر سيليكا "بييل" بالعاصمة بانجي، تنقل عن اللواء (يايا إسكوت)، الذي خدم في الجيش الحكومي إبان حكم الرئيس السابق فرانسوا بوزيزى، قوله إنه "على الرغم من العنف الطائفي الجاري عندنا، إلا أن الجنود المسيحيين والمسلمين يعيشون معًا داخل الثكنات في وئام".
واتهم الجنرال القوات الفرنسية بأنها "مسؤولة عن التحريض على العنف الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في إفريقيا الوسطى".
وأشار إسكوت، إلى أن "المسلمين والمسيحيين كانوا يعيشون في وئام حتى شرع بعض الساسة المحليين، الذين يتم تمويلهم من جانب فرنسا، في تحريض المسيحيين ضد المسلمين".
ومن جانبه، اتهم العقيد محمد السعيدي، فرنسا، "بمحاولة تأجيج الفتنة الطائفية من أجل الاستحواذ على الموارد الطبيعية للبلاد، في الوقت الذي تقاتل الطوائف المتنافسة بعضها بعضًا".
وأشار إلى أن هذه سياسة "فرق وانهب"، معتبرًا أن "العديد من المواطنين لم يتمكنوا من إدراك نواياهم الحقيقية".
ويرى مراقبون أن تحالف "سيليكا"، لم تكن له أي أهداف سوى الإطاحة بالرئيس (فرانسوا بوزيزى)، وهو هدف سياسي متعلق بفشل سياساته وتراجعه عن اتفاقات وقعها معهم.
* أسباب أخرى للصراع
يقول متابعون إن الاقتتال الطائفي الحالي، بين المسلمين والمسيحيين في إفريقيا الوسطى، أججته صراعات سياسية من أجل السلطة والسيطرة على الموارد، هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فهناك أطراف دولية وإقليمية متورطة في الصراع، من أجل مصالحها ولضمان نفوذها في البلد الإفريقي الضعيف الذي يمتلك موارد ضخمة.
وفي مقدمة القوى الدولية تبرز فرنسا، المستعمر القديم لإفريقيا الوسطى والوصي الحالي على البلاد، المدعوم من القوى الغربية (أوروبا والولايات المتحدة)، وفي مواجهة الصين الغريم الشرقي.
مؤخرًا، نقّبت مؤسسة البترول الوطنية الصينية عن النفط في شمال شرقي البلاد، وكانت النتائج مثمرة، إلى جانب شريكتها السودانية، فحازتا على احتكار التنقيب عن النفط، بعد أن اضطرت شركة أمريكية إلى وقف عمليات البحث عن النفط، إثر تعرّضها لهجمات مسلحة في شمال البلاد.
كما تستثمر الشركات الصينية في قطاعات أخرى عديدة، خاصة في مجال الطاقة والبناء والاتصالات، ويبدو أن هذا البلد يشكل سوقًا واعدًا للمنتجات الصينية في ظل ضعف بنيته التحتية وإنتاجيته.
وعلى الرغم من الدور الصيني المتعاظم، لا تزال فرنسا المستثمر الأول في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث تتمتع فرنسا بامتيازات وافرة لشركاتها خاصة في مجال الطاقة والنقل والاتصالات.
خلال زيارته التفقدية لقوات بلاده المنتشرة في البلاد، شدّد وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لودريان، على ضرورة التدخل عسكريًا، معلنًا أن "ضمان الأمن في إفريقيا هو أيضًا ضمان الأمن في فرنسا".
وحيث لا يبدو مطلقًا أن الوجود الفرنسي محايدًا بين الفرقاء في إفريقيا الوسطى، قال (إبراهيم عثمان)، المتحدث باسم الرئيس السابق ميشال دجوتوديا، في تصريحات له، "إن المسلمين لا يريدون فرنسا هنا، تجارة الذهب والألماس التي تشكل 80% من حجم اقتصاد البلاد في يد المسلمين، وفرنسا هنا من أجل انتزاع هذه السيطرة والإشراف على آبار البترول واليورانيوم".
وأضاف: "الصحافة الفرنسية لا تعكس الوجه الحقيقي للمذابح والاحتلال، والنقطة الهامة الثانية هي اعتناق عدد كبير من المسيحيين الإسلام عن طريق التزاوج بين المسلمين والمسيحيين، وتزايد هذه الأعداد تدريجيًّا".
وكان الرئيس المسيحي (فرنسوا بوزيزي) قد استنجد بفرنسا والولايات المتحدة لمساعدة نظامه على التصدي لمقاتلي "سيليكا"، وهم يتقدمون نحو العاصمة.
وقال بوزيزي، أمام حشد بالميدان الرئيسي في بانجي: "نطلب من أبناء عمومتنا الفرنسيين والولايات المتحدة باعتبارهما قوتين كبيرتين، أن يساعدونا على دحر المتمردين".
هناك أيضًا لاعبون إقليميون يحركون الأحداث بشكل أو بآخر في إفريقيا الوسطى، مثل جنوب إفريقيا وتشاد والسودان.
* العالم الإسلامي
موقف دول العالم الإسلامي من المذابح التي يتعرض له المسلمون في إفريقيا الوسطى، ينطبق عليه عبارة "أذن من طين وأخرى من عجين"، فلم يصدر عن دولة أو مؤسساته الصغرى منها والكبرى سوى بيانات الاستنكار والإدانة ودعوات للأمم المتحدة بالتدخل، فضلاً عن عدد من التصريحات التي خرجت من بعض الشخصيات الدينية.
أخبار ذات صلة:
إفريقيا الوسطى تفضح "العنصرية" ضد المسلمين
انتخاب سامبا بانزا رئيسا مؤقتا لأفريقيا الوسطى