الثقافة السياسية لـ"الدعوة السلفية" لا تبشر بالالتحاق بقطار رفض الانقلاب
لم أكد أقرأ الخبر الذي سبق به الإعلامي مختار معتمد في إحدى الصحف المصرية شبه الرسمية مساء أمس، حتى قفزت إلى ذهني قصة رواها لي أحد أصدقائي بعد أيام من تنحي الرئيس الأسبق مبارك عن منصبه، إذ روى لي صديقي أن محفظ القرآن الخاص بأولاده، وهو سلفي التوجه؛ ذهب لتلبية استدعاء في جهاز أمن الدولة، ولم تكن لديه معلومات عما كان الضابط يسأله بخصوصه؛ فما كان من الضابط إلا أن قال له: "روح وابعت لي مراتك.. وإن ما جاتش انتا عارف هاجيبها إزاي".
فشلت توسلات المحفظ في استدرار عطف الضابط؛ ويحكي لي صديقي أن هذا المحفظ، أخبره أنه وهو في طريقه إلى المنزل كان يلقي بنفسه أمام السيارات المسرعة؛ لعل إحداها تدهسه؛ ولكن دون جدوى، توقف صديقي عن الرواية، ولم أجد في نفسي فضولاً للسؤال عن بقيتها.
لم يكن سيد بلال المتهم في الحادث الإرهابي الخاص بتفجير كنيسة القديسين الذي قامت صحف أجنبية بالتحقيق فيه لتلقي بتبعة "تدبيره" على وزارة الداخلية المصرية، وبين نموذج سيد بلال ونموذج محفظ القرآن يقع نموذج توظيف السلفي الدعوي، فالأجهزة الأمنية تعتبرهم مصدرًا للمعلومات من جهة؛ كما تعتبرهم من جهة أخرى وسيلة لنشر الحكايات عن البطش الذي يجري داخل جدران المباني الأمنية؛ مما يسهم في ترويع الناس.
ومن منظور آخر، تنظر الحركات الإسلامية لهذا السلفي الدعوي، باعتباره عميلاً للأجهزة الأمنية وتضعه في مرتبة دونية، لم يكن سيد بلال أول ضحية سلفية لانحراف المجال العام في مصر، بل كان كل سلفي ضحية لهذا الواقع المؤلم الذي ولدت ثورة يناير وهي ترفع شعار تغييره (الكرامة الإنسانية).
توقيت صدور هذا الحكم
لن أقف طويلاً عند تفسير محاولة إخفاء الحكم، فهي بادية للعيان أكثر إشراقًا من الشمس، وما يعنيني هو توقيت صدور الحكم نفسه، والحقيقة أنه يكشف عن أحد 3 احتمالات في تقديري:
الاحتمال الأول: أنه لا تزال ثمة شريحة من قضاة مصر تفضل الحفاظ على قدسية القضاء، وتعلو به عن الانخراط في الشأن السياسي الذي أصبح استقطابيًا بدرجة كبيرة، وفي هذا الإطار، فإن توقيت صدور الحكم تم بمعزل تام عن النظر في الأجندة لتحديد قرار تأجيل النطق بالحكم، أو النطق به في إطار عدم الخضوع لتأثير رؤية استقطابية، وفي هذا الإطار، فإن تبصر الوضع السياسي الراهن وجهود إخفاء الحكم أملاً في سرعة انتهاء لجنة الخمسين من عملها؛ كل هذا يشي بأن هذا الملف لم يكن موضع متابعة من أي جهة من الجهات المحسوبة على الانقلاب؛ ولعل هذا يرجع إلى الضغوط الواقعة على كاهل هذه الجهات بسبب انتفاضة الشارع؛ وبخاصة في ذكرى محمد محمود.
الاحتمال الثاني: احتمالنا الثاني ينصرف إلى صراع الأجنحة داخل المؤسسة العسكرية، فثمة يد خفية قامت من قبل بالتكتم على تسريب الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وهو يفرط في امتداح المشير محمد حسين طنطاوي، وأفرجت عن التسريب قبيل أيام من ذكرى "محمد محمود" الثانية؛ وهي المذبحة التي ارتكبها المجلس العسكري برئاسة طنطاوي، ولا يستبعد أن تكون هذه اليد وراء استصدار هذا الحكم في هذا التوقيت؛ في محاولة لتأزيم الموقف أمام محاولات الفريق السيسي للخروج بالدستور، واستكمال رؤيته لـ"خارطة المستقبل"، ولا يمكن لمحلل استبعاد هذا السيناريو تحت مظلة "قدسية القضاء"؛ حيث إن انخراط القضاء في المشهد السياسي تجلياته سافرة.
الاحتمال الثالث: الاحتمال الثالث والأخير أن يكون القاضي ذا ضمير ثوري؛ يرى ما يحدث في مصر باعتباره ظاهرة سلبية تقتضي التدخل، ولو أسفر هذا التدخل عن التضحية بالوظيفة والمكانة الاجتماعية المرتبطة بها.
حزب النور.. بين البرستيج والخضوع
قصة المحفظ ومن قبلها قصة الشاب السلفي سيد بلال، ويلحق بهما قصص لعشرات الآلاف من السلفيين، كانت تبحث عن مخرج أساسي وفرته ثورة 25 يناير التي ولدت من رحم مطلب "الكرامة الإنسانية"، ولعل القارئ يذكر أن ثورة 25 يناير قامت في الأساس اعتراضًا على تعذيب المواطنين في أقسام الشرطة، كما لا يزال الفريق الداعي لاحترام الشرعية والمطالب بالعودة إليها أو استعادتها، يرفع شعار الكرامة الإنسانية في واجهة خطابه وفي مقدمة حججه التي يدعم بها مطلب الشرعية، وفي هذا السياق، فإن التساؤل يثور حول بدائل سلوك حزب النور المستقبلي.
لم تكن الدعوة السلفية (الظهير الاجتماعي لحزب النور) من مؤيدي 25 يناير، لأن مصادرها الفقهية تميز في السياسة بين فقه العلاقات الدولية وبين الفقه المحلي؛ حيث يمكن استخدام العنف من وجهة نظرهم في مجال العلاقات الدولية دفاعًا أو هجومًا؛ بما يحقق مصلحة الجماعة، والجماعة هنا بمعنى "جماعة المسلمين" لا جماعة "الدعوة السلفية".
أما في الفقه المحلي الداخلي، فإن فقه الدعوة السلفية ينتمي لمدرسة تعرف بـ"مدرسة الصبر"، وهي مدرسة تعرف بسلبيتها السياسية الشديدة حيال ارتكاب الحاكم للمنكرات والكبائر، حيث ترى أنه لا ينبغي الخروج على الحاكم إلا في حالة صدور كفر بواح عنه "عندهم من الله فيه سلطان".
وبمرو الأيام، وبضغط السلطة، صار الخروج على الحاكم مكروهًا كليًا، حتى لو تضمن خطابه أو تضمنت سيرته كفرًا بواحًا، واستبدلت هذه المنظومة الفقهية مفهوم "الفتنة" بمفهوم "الكفر البواح"، وهذا الإطار الفقهي هو الذي منع الدعوة السلفية من الخروج في 25 يناير؛ ليبدأ ظهورها بعد إعلان التنحي في 11 فبراير.
لم تكد تمضي أربعة أشهر على هذا الإعلان، حتى تمت الموافقة على تأسيس حزب النور بمشاركة مسيحيين مصريين، وبرز الحزب كثاني أكبر القوى الحزبية في مصر بعد الفوز بنحو 22% من مقاعد مجلس الشعب 2011 - 2012، وهي أول انتخابات تشريعية يخوضها، ثم مر الحزب بأزمة حادة انتهت بانشقاق رئيس الحزب عماد عبد الغفور، وعدد من القيادات في ديسمبر 2012، وأسسوا حزبًا جديدًا باسم حزب "الوطن".
ويمكن القول بأن الهدف الأساسي وراء اتجاه الدعوة السلفية لتأسيس حزبها أن تدخل الحياة السياسية؛ لتتمكن من صنع مكانة سياسية تمكنها من تجاوز آلام خبرة فترة حكم مبارك التي تحولوا فيها لكبش فداء ومطية لكل مشكل سياسي.
ومن ثم، فإن قرار الحل يعني العودة بهم للمربع رقم صفر مجددًا؛ حيث يعودون لمكانتهم كـ"وسطاء" لأجهزة الأمن، وهي المكانة الوحيدة التي يمكن تأسيسها على العلاقة بين الدعوة السلفية والحكومة المدعومة عسكريًا.
قد يطرح البعض تساؤلاً عن إمكان عودتهم لصف 25 يناير، وإجابة هذا السؤال لا تفرضها المعطيات المادية وحدها، بل تفرضها من ناحية مكانة ثقافة فقهية شرعية لم تدخل حيز المراجعة بعد (فكرة إمارة التغلب التي أعلن عنها ياسر برهامي)، ومسيرة تنشئة اجتماعية وسياسية دامت لأكثر من 30 سنة، لم تلبث أن أسفرت عن وجهتها وتداعياتها السياسية عند أول منعطف.