فشل الانقلاب في إدارة الدولة يعني عودة ديمقراطية راديكالية
استطاعت القوى السياسية المصرية أن تبلور موقفا موحدا من قضيتي الاستبداد والتوريث بالدخول في تحالفات سياسية مختلفة، كان أبرزها حركتي كفاية والجمعية الوطنية للتغيير,
وعندما قامت ثورة يناير 2011 شاركت الجمعية فيها بعد انسداد أفق التغيير السلمي الديمقراطي عبر صندوق الانتخاب, لكن سرعان ما برز الاختلاف بين تلك القوى مرة أخرى بعد بيان التنحي الذي تلاه اللواء عمر سليمان؛ حيث عاشت مصر حالة استقطاب حاد، ساهمت فيها قوى جديدة لم تشارك في ثورة يناير، لكنها استطاعت جذب كل تيار من التيارات الموجودة إلى هذا الطرف أو ذاك من أطراف التشدد والاستقطاب، فانقسم شركاء الأمس في "الجمعية الوطنية للتغيير" والتي كان يعول عليها لتكون إطارا جامعا للتيارات السياسية المعارضة لنظام مبارك.
ووفق تصوير الإعلام المصري للمشهد المصري، أصبح المشهد السياسي بعد 11 فبراير 2011 منقسما بين قوى إسلامية (سواء شاركت في الثورة أم لا) وقوى (سواء شاركت في الثورة أم لا)، مع وجود طرف ثالث يتمثل في بنية الدولة العميقة المصرية بأجهزتها الأمنية المتعددة والمتنوعة، وهي الأجهزة التي ظلت متماسكة ولم تفقد إلا رأسها.
وتمثل المتغير الحاسم الذي رسم ملامح المشهد الاستقطابي الحاسم، في انشغال القوى السياسية المختلفة بخلافاتها أو بتحقيق أهدافها قصيرة الأمد ليعطي قوة للدولة العميقة يوما بعد يوم، وبدا ذلك جليا في استفتاء 19 مارس 2011 وما تلاه من أحداث أدت لزيادة حالة الانشقاق بين القوى السياسية لصالح زيادة فعالية الدولة العميقة في تعويق المسار الثوري.
ومع بداية إدراك اختلاف المسارات، راهن الإسلاميون على قوتهم التنظيمية ووجودهم في الشارع وقدرتهم على حسم أية انتخابات ديمقراطية لصالحهم؛ بينما راهن العلمانيون على سيطرتهم على الإعلام وتغلغلهم في مفاصل الدولة.
وبالفعل حقق الإسلاميون انتصارات انتخابية منذ 19 مارس جعلت القوى العلمانية تتيقن أن الديمقراطية لن تكون سبيلا لوصولها للسلطة، وأن مكانها الطبيعي هو التحالف مع المؤسسة العسكرية من أجل استمرار الخط العلماني للدولة، حتى إن كان استبداديا، فديمقراطية يسيطر فيها الإسلاميون على السلطة أسوأ لدى الفريق العلماني من استبداد علماني يحقق لهم الوجود والاستمرار ونيل المكانة والحفاظ على مصالحهم، خاصة أنها كلها تدور ربما في مساحات كانت بعيدة عن الإسلاميين أو مبعدة عنهم كالفن والثقافة والإعلام وغيرها.
لم يستطع الإسلاميون أن يقدموا للمجتمع البديل الكامل لدولة الاستبداد، ولم يستطع العلمانيون أن يقبلوا بديمقراطية تأتي بغيرهم، فكانت عودة الدولة العميقة مرة أخرى.
سيطرة إعلامية
أصبح الإعلام هو الأداة الرئيسية لإدارة المشهد المصري، وبينما استخدمت جماعة الإخوان قوة تنظيمها وانتشارها في ربوع مصر، واعتمدوا على التواصل المباشر مع رجل الشارع، نجد أن الفريق العلماني اعتمد على امتلاك شبكات إعلامية ضخمة من فضائيات وصحف ومواقع إنترنت يتم إنفاق مبالغ ضخمة عليها من أجل تحقيق أهدافها.
وبقراءة سريعة لملكية هذه الشبكات الإعلامية الضخمة يتضح أنها تعود لشخصيات وثيقة الصلة بـ"الدولة العميقة" وشبكة المصالح التي تربط رجال الأعمال بنظام الرئيس الأسبق مبارك ورجاله الذين لا يزالون في السلطة.
لقد ظلت ملكية وسائل الإعلام حصرية للدولة منذ سياسة التأميم التي اتبعها النظام الناصري في الستينيات، ومع سماح السادات بالتعددية الحزبية المقيدة؛ تم السماح لهذه الأحزاب بإصدار الصحف اليومية والأسبوعية مثل الأهالي عن التجمع، والشعب والأحرار وغيرها.
وفي التسعينيات من القرن الماضي تم السماح للشركات الاعتبارية بتملك الصحف بشروط أمنية مشددة، وترتب على ذلك أن كانت بوابة الموافقة والعبور إلى امتلاك الصحف الخاصة هو العلاقة بالنظام السابق، وبعدها بدأت تظهر قنوات "دريم" لمالكها أحمد بهجت و"المحور" لحسن راتب و"ميلودي" لرجل المخابرات أشرف مروان، وكلهم وثيقو الصلة بالنظام القائم حينها، بل في شراكة مع بعض أقطاب النظام.
ودخل على الخط بعد ثورة يناير 2011 بعض رجال الأعمال المقربين من نظام مبارك، وتم ضخ ما يزيد على 6 مليارات جنيه وفقا لتقديرات بعض المراقبين، حيث قام هؤلاء بتأسيس شبكة ضخمة من وسائل الإعلام لم تقتصر على امتلاك وسيلة إعلامية واحدة بل لامتلاك حزمة من وسائل الإعلام، ونشأ ما يسمى الإمبراطوريات الإعلامية في مصر.
يسيطر على المشهد المصري الآن في ملكية شبكات وسائل الإعلام فريقان رئيسيان:
الفريق الأول: هو الدولة المصرية التي لا زالت تمتلك الصحف القومية وشبكة النيل للقنوات الفضائية وبعض المواقع الإخبارية والعامة القومية؛ سواء التابعة للصحف أو لبعض المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة. والسيطرة على هذه الوسائل حتى الآن لمؤسسات الدولة الأمنية.
الفريق الثاني: رجال الأعمال؛ سواء المقربون من النظام السابق أو الذين لهم علاقات قوية بالخارج، فنجد إمبراطورية رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس (فضائيات أون تي في وصحف المصري اليوم ومجموعة مواقع مصراوي)، كما نجد إمبراطورية رجل الأعمال محمد الأمين (مجموعة قنوات سي بي سي وصحيفة الوطن وإصداراتها وموقعها على الإنترنت)، ونجد أيضا رجل الأعمال وليد مصطفى (شبكة قنوات النهار وموقع اليوم السابع وصحيفته)، كما نجد رجل الأعمال الوفدي السيد البدوي (مجموعة قنوات الحياة).
لقد تحولت وسائل الإعلام إلى الأداة الرئيسية في إبراز وتعميق حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع لصالح طرف ثالث ممثلا في "الدولة العميقة" التي قامت ضدها ثورة يناير 2011، وكان واضحا أن مالكيها هم المستفيد الأول من حالة الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية المختلفة.
ففي المرحلة الأولى من مسار الثورة التي امتدت من 11 فبراير 2011 حتى إسقاط الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3 يوليو 2013؛ ركز الإعلام لتكريس صورة العلاقة التنسيقية (التي حرص على تصويرها سلبية) بين المجلس العسكري الحاكم ثم قيادة المؤسسة العسكرية وبين القوى الإسلامية، وهو ما أكدت فيه على الموقف الصامت للقوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان من كثير من أخطاء المجلس العسكري بحق القوى الثورية، أو التمييز الإيجابي بعد ذلك للمؤسسة العسكرية في دستور 2012. وخلال هذه الفترة حرصت وسائل الإعلام على شيطنة جماعة الإخوان بصورة خاصة، والتيارات الإسلامية المختلفة بصورة عامة، وتم تدشين توجه لتعميق الشرخ في جدار الثقة بين القوى الثورية وبعضها؛ والضغط للوصول بهذا الشرخ إلى حالة هوة عميقة خلصت إلى استقطاب حاد.
ثم جاءت المرحلة الثانية متمثلة في انقلاب 3 يوليو لتمارس وسائل الإعلام تلك دورا أكثر سفورا في دعم الانقلاب والترويج له وتبرير مجازره بحق مؤيدي الشرعية؛ سواء عبر الفضائيات التي يمتلكها الرموز المعارضة لحكم الرئيس مرسي أو القوى السياسية التي انضوت تحت إرادة المؤسسة العسكرية.
حالة مستمرة
حالة الاستقطاب تلك بين القوى السياسية بتوجهاتها المختلفة تصب في النهاية في صالح الطرف الثالث هنا وهو "الدولة العميقة" ورأس حربتها المؤسسة العسكرية، ومن ثم؛ فإن وصول شخصية عسكرية للسلطة سيكون من مصلحتها استمرار حالة الاستقطاب ليظل حاكما ويظل الاختلاف عنوان القوى السياسية المدنية التي ستسعى لتقديم تنازلات ضخمة للحاكم العسكرية مقابل بعض المزايا والنفوذ السياسي والاقتصادي.
تأثر المجتمع على مستوى القاعدة بحالة الاستقطاب تلك، وزاد تأثره بحالة الفشل التي تعتري أداء القائمين على الحكم وهم كانوا إحدى القوى الفاعلة في ثورة يناير التي فازت في الاستحقاقات الانتخابية، حيث قامت القوى الثورية المعارضة بتثوير الشارع وإلهاء النظام القائم بالاعتصامات والمظاهرات المستمرة مع قيام الدولة العميقة بدورها في تعطيل مؤسسات الدولة من خلال عدم القيام بدورها المنوط بها أو تنفيذ سياسات النظام القائم, وبعد الانقلاب الذي كان متوقعا أن يستقر بعد أسبوع على الأكثر من حدوثه كان المخطط أن تقوم الدولة العميقة بتقديم حلول سريعة لمشاكل المجتمع؛ مستخدمة في ذلك هذا الدعم المالي الهائل المقدم من الدول الداعمة للانقلاب، ويرافق تلك العملية البديلة أن يكون الشارع مستقرا في عهد الانقلاب، باعتبار أن القوى الثورية العلمانية تحالفت معه.
لكن دخول مؤيدي الشرعية واستمرار فعالياتهم ربما أفسد هذه المعادلة الانقلابية، وباتت مصر تعيش تقريبا نفس السيناريو الذى كانت تعيشه خلال حكم الرئيس المنتخب مرسي، فحالة عدم الاستقرار السياسي بسبب المظاهرات المستمرة واستعجال مؤيدي الانقلاب من رجال الدولة العميقة بصفة خاصة في حصاد ما قدموه أدى لوضع أسوأ مما مرت به مصر خلال الفترة الأولى لحكم المجلس العسكري عقب 11-02-2011، ثم فترة حكم الرئس المنتخب د. محمد مرسي.
ربما تستفيد قيادة المؤسسة العسكرية من حالة الاستقطاب الموجودة حاليا في تمرير ما تريده من قوانين لتحصين نفسها، ولتمكين أحد قياداتها من الوصول لرأس الحكم، لكنها سترث في كل الأحوال دولة تواجه تراجعا اقتصاديا وحالة من عدم الاستقرار السياسي لفترة ليست بالقصيرة ربما تؤدي في النهاية لفشل الانقلاب لصالح قيام نظام ثوري جديد أكثر راديكالية من كل التيارات الموجودة على الساحة.