تبدو السياسة للعديد من التيارات الدينية المحافظة على أنها دنس أخلاقي ينبغي تجنبه، في حين تبدو لآخرين وسيلة ناجعة لدعم أيديولوجيتهم من خلال التحول من الإطار النظري والعمل الدعوي إلى التطبيق العملي والممارسة السياسية. هذا تماما ما حدث مع التيار السلفي منذ اندلاع الربيع العربي، حيث بدا هذا التيار وكأنه الرابح الأكبر في تحولات هذا الربيع. ولكن، ومع سقوط جماعة الإخوان عن عرش السلطة في مصر، تبذل التيارات السلفية جهودا جبارة للمحافظة على صورتها "المقدسة".
والحقيقة أن صعود النجم السلفي في المشهد السياسي المصري، وربما الشرق أوسطي، يمثل لحظة فارقة في تاريخ الإسلام السياسي على مدى القرن الماضي ليس فقط لأنه يرسم، بحسب ما يعتقده البعض، خط النهاية لحقبة هيمنت فيها جماعات أخرى، كجماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، على المشهد، وإنما لأنه يكشف عن بعض التحولات الجوهرية في الخطاب والأيديولوجية السلفية. فبعد عقود طوال من الجفاء والعزلة بين الأيديولوجية السلفية المحافظة من جانب، والعمل السياسي المنظم من جانب آخر باعتبار العمل السياسي –من وجهة نظر السلفيين- محرما شرعا، شهد الخطاب السلفي بعد سقوط نظام مبارك في 11 فبراير 2011 تحولا واضحا وسريعا من المقدس (الدين) إلى المدنس (السياسة).
ولكن.. هل كانت الاستجابة السياسية للزخم الذي تشهده الساحة السياسية المصرية واحدة من قبل التيار السلفي، أم أنها لا تزال تنم عن سلفيات متباينة وأيديولوجيات متعددة بل ومتصارعة داخل هذا التيار؟ وهل نجحت الأحزاب السلفية في اغتنام الفرصة وتوظيف هذه التحولات لصالحها أم ضلت طريقها في دهاليز السياسة المتشعبة وضاعت في متاهاتها الموغلة إلى غير رجعة؟
هذه التساؤلات وغيرها يجيب عنها خليل العناني، الخبير بمعهد الشرق الأوسط، والأستاذ بجامعة دورهام البريطانية، والزميل الزائر بمعهد بروكينجز بالعاصمة الأمريكية واشنطن، في مقالته المنشورة بصحيفة واشنطن بوست تحت عنوان Salafis Try their Hand at Religious Politics، حيث يرصد الكاتب المواقف المتباينة والتوجهات المتصارعة التي تتبناها الأحزاب والحركات السلفية حيال المستجدات المتلاحقة على الساحة المصرية وما يمكن أن تؤول إليه هذه الأحزاب وتلك الحركات نتيجة لهذه المواقف.
فبينما دفعت هذه الأحداث والتحولات ببعض رموز التيار السلفي إلى اعتزال السياسة والعودة إلى حظيرة الدعوة، لم يستطع آخرون من رموز هذا التيار مقاومة بريق العمل السياسي؛ إلا أن هذا الفريق انقسم انقساما واضحا بين القوتين العظميين المتصارعتين على الساحة السياسية في مصر، وهما المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين.
فمنذ اللحظة الأولى لإعلان الفريق عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، في 3 يوليو الماضي عن خارطة المستقبل، والتي أطاحت بنتائج كافة الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها البلاد بعد ثورة 25 يناير وتجميد العمل بدستور 2012 قامت السلطة الجديدة بإغلاق العديد من القنوات التليفزيونية التابعة لهذا التيار، مما كان له أكبر الأثر في إعاقة جهود مشايخ السلفية لنشر أيديولوجيتهم والتواصل مع قواعدهم الجماهيرية في المجتمع المصري بصفة خاصة والعربي الإسلامي بصفة عامة. ثم جاءت قرارات وزير الأوقاف في الحكومة الحالية بحظر الدعاة والأئمة غير "الرسميين" لتعمق من عزلة السلفيين، ولتضيق من دائرة الانتشار الموسعة التي كان يتمتع بها أئمتهم ومشايخهم.
تلا ذلك أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس الماضي، وما أسفرت عنه من تداعيات خطيرة، بحسب عناني، لتعمق من تباين انحيازات ومواقف الأحزاب والحركات السلفية؛ حيث انحازت بعض هذه الأحزاب، مثل حزب الوطن والأصالة والفضيلة والجبهة السلفية، إلى جماعة الإخوان المسلمين، وصارت مكونا أساسيا فيما يُعرف بالتحالف الوطني لدعم الشرعية، الذي تشكل في شهر يونيو قبيل الإطاحة بالرئيس المنتخب، والذي لا يزال يمارس دورا محوريا في تنظيم وقيادة الاحتجاجات والتظاهرات المناهضة لعزل مرسي والتي تجوب أنحاء البلاد على مدى ما يزيد عن أربعة أشهر حتى أصبحت تمثل صداعا مزمنا في رأس الإدارة الحالية، فضلا عن تولي قياداته عمليات التفاوض في المبادرات المطروحة سواء من بعض الرموز المصرية أو من وسطاء دوليين مثل الاتحاد الأوربي الذي يسعى، بحسب عناني، لوضع حد للأزمة السياسية المتفاقمة والخروج بمصر من هذا النفق المظلم.
على الجانب الآخر تمر بعض الحركات والتنظيمات السلفية بعمليات إعادة هيكلة، مثل حركة حازمون- والتي نشطت بشكل ملحوظ إبان فترة حكم مرسي- وائتلاف دعم المسلمين الجدد، حيث اختفت بعض هذه الحركات تماما من المشهد السياسي، بينما لجأت أخرى إلى معاودة الظهور بشكل جديد. فقد دفعت الملاحقة الأمنية للشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل، والتي انتهت بإلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، بالعديد من أتباعه للانضمام إلى حركة أخرى تُعرف بحركة أحرار، والتي تضم خليطا من العناصر السلفية وبعض الشباب الناشطين الرافضين للانقلاب. أما الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة فلا يزالان يخوضان معركة ضارية للمحافظة على أنشطتهم الدعوية والمجتمعية من جانب، ولتجنب قمع الدولة من الجانب الآخر، لا سيما في ظل المساعي التي تبذلها الحكومة الحالية للهيمنة على المجال الديني والدعوي في البلاد والتي تجلت أكثر ما تجلت في قرارات إغلاق القنوات وحظر الدعاة غير الأزهريين كما أشرنا إليها مسبقا.
أما الطرف الآخر، وربما النقيض، في الطيف السلفي خاصة وتيارات الإسلام السياسي عامة، فيقبع فيه بقوة حزب النور السلفي الذي يبدو وكأنه، بحد وصف عناني، يجد متعة خاصة في ممارسة اللعبة السياسية. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية أبدت قيادات هذا الحزب مستويات عالية من الحنكة السياسية، مثلما أثبتوا لاحقا رغبة قوية في التوافق مع العديد من القوى والمؤسسات للإطاحة بالرئيس المنتخب. ويرى الكاتب أن الأسباب الحقيقية لاتخاذ حزب النور هذا الموقف إنما تكمن في الصراع السياسي التاريخي بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور. كذلك فقد وجد حزب النور، ومن ورائه رموز الدعوة السلفية، في هذا الصراع المحموم بين الإخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية فرصة سانحة لتقديم أوراق اعتمادهم للمجتمعين المصري والعالمي كبديل سياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم دعموا بقوة تدخل المؤسسة العسكرية ضد نظام مرسي وشاركوا في لجنة الخمسين التي بدأت عملها لتعديل دستور 2012، الذي كان حزب النور إحدى القوى الساسية الممثلة في صياغته، وانتهت إلى صياغة معالم دستور جديد للدولة المصرية.
ويؤكد عناني أن الانتهازية السياسية التي يمارسها حزب النور تمثل شكلا من أشكال اللعب بالنار التي تلتهم، أول ما تلتهم، من يلعب بها، لأن "البرجماتية والمرونة لهما حدود لا بد من الوقوف عندها"، وأن تجاوز هذه الحدود "بمثابة انتحار سياسي لأي فصيل أو حزب، لا سيما إذا كان هذا الحزب أو ذلك الفصيل ينطلق من خلفية دينية"؛ ولعل هذا ينطبق بامتياز على الممارسة السياسية التي ينتهجها حزب النور، حيث يسعى الحزب جاهدا في آن واحد لتأمين مكاسبه السياسية من جانب، والمحافظة على مصداقيته وصورته كحزب يستمد برامجه وأجندته السياسية من مرجعية دينية من جانب آخر. لقد أدى هذا "اللعب بالنار"، بتعبير عناني، إلى تعرض الحزب لسيل من الانتقادات الحادة في كافة الدوائر داخل تيار الإسلام السياسي، وموجة من الغضب الشديد في أوساط قواعده ومؤيديه حتى تحول الحزب إلى الخاسر الأكبر في الصراع الراهن، وراح يسدد فاتورة مواقفه السياسية ليس فقط من حساب توافقه مع النظام الحالي وإنما أيضا من رصيد مصداقيته وشعبيته. وإذا كان المناخ السياسي العام في مصر الآن يجاهر بالعداء لكافة فصائل الإسلام السياسي، فإن حزب النور بات الأكثر تأثرا بهذا المناخ، حيث يتجه الدستور الجديد الذي يتم صياغته بشراكة من حزب النور إلى حظر كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني، بما في ذلك حزب النور بطبيعة الحال، الأمر الذي يمثل ضربة قاصمة للحزب وقياداته.
ويخلص الكاتب إلى أنه في الوقت الذي سعت فيه الحركة السلفية لتجنب المصير التصادمي الذي تمر به جماعة الإخوان المسلمين الآن، وفي الوقت الذي حاولت فيه تقديم نفسها محليا وعالميا كممثل سياسي عن الإسلام الوسطي، وفي الوقت الذي مارست فيه كل أشكال الانتهازية السياسية للتوافق مع النظام الحالي ولتفادي القبضة الأمنية.. في هذا الوقت ذاته تحولت السياسة التي بدت نعمة على الدعوة السلفية ورموزها في أول المطاف إلى نقمة ووبال في آخره!
*يمكن مطالعة النص الأصلي لمقالة Salafis Try their Hands at Religious Politicsللدكتور: خليل العناني بصحيفة واشنطن بوست على الرابط التالي:
http://www.washingtonpost.com/blogs/on-faith/wp/2013/11/05/salafis-try-their-hand-at-