قديماً قال المفكر الفرنسي باسكال: «يتعيّن إيجاد سبيل لجعل ما هو قوي محقاً وما هو محق قوياً»، معبراً عن إشكالية لم يجد الغرب حلاً لها حتى يومنا هذا، فكل يرى الحق إلى جانبه، وهذا شأن أطراف الصراعات في تاريخ العالم الذي هو تاريخ حروب.
لكن هناك حقاً آخر، أرفع وأسمى، وهو حق ضحايا الصراعات من نساء وأطفال وشيوخ، يعانون التشرد والمجاعة والقتل والاضطهاد، لانتماءات عرقية ودينية لا يملكون شيئاً في تغييرها. حق المناضلين من أجل هؤلاء والذين تعرضوا للقتل والتنكيل والأسر والمنافي، وضحوا دفاعاً عن أوطانهم وطوى معظمهم التاريخ الذي يكتبه المنتصرون.
حق أبناء الغالبية الساحقة الصامتة الذي وقفت إلى جانبه كل الأديان السماوية، وشددت عليه الشرائع الدولية، في أن «تكون لهم الحياة وتكون أكثر وفرة»، كما كتب على باب الجامعة الأميركية في بيروت منذ إنشاء مقرها في مطالع القرن الماضي.
الحق الأساسي في السكن والتعليم والطبابة والعيش الكريم للجميع والذي تنص عليه شرعة حقوق الإنسان، هذا قبل الحديث عن «الأمن» و»تقرير المصير» و»حرية التعبير» وسواها من القضايا التي باتت وكأنها ضرب من ضروب الترف في زمننا هذا.
يبدو حجم الكارثة جلياً عندما تقرأ إعلاناً مثل إعلان الأمم المتحدة الأسبوع المنصرم، عن أن «سبعة ملايين نسمة بحاجة إلى مساعدات إنسانية» في السودان، وعن أعداد النازحين من سورية والإحصاء الذي يكشف هول المأساة هناك حيث ناهز عدد القتلى الـ191 ألفاً، ناهيك عن الضحايا في غزة والعراق ومناطق أخرى مشتعلة حول العالم.
تستوقفك «صرخة» في وادٍ سحيق كالتي أطلقتها المفوضة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي، منددة بفشل مجلس الأمن في وقف الصراعات، لـ»تقديمه المصالح الضيقة لدوله على المعاناة الإنسانية والانتهاكات الخطرة للسلم والأمن العالميين».
بيلاي التي آثرت تقديم استقالتها احتجاجاً، لتسجيل موقف في نهاية ولايتها، قالت الأربعاء الماضي، في آخر إفادة لها أمام المجلس بعد ستة أعوام لها في المنصب: «أعتقد جازمة أن الاستجابة السريعة (للأزمات) كان من الممكن أن تنقذ مئات الآلاف من الأرواح».
وأشارت إلى أن الأزمات في سورية وأفغانستان وأفريقيا الوسطى والكونغو والعراق وليبيا ومالي وغزة والصومال وجنوب السودان والسودان وأوكرانيا، تعكس فشل المجتمع الدولي في منع الصراعات التي «لم يندلع أي منها بلا سابق إنذار وكانت تختمر على مدى سنوات وأحياناً عقود، من انتهاكات حقوق الإنسان».
لم تتوان القاضية الجنوب أفريقية، عن دعوة القوى العالمية إلى محاسبة إسرائيل والتحقيق في ارتكابها «جرائم حرب محتملة» في غزة، كذلك لم يفت بيلاي التنديد بـ»العنف العنصري» في ميسوري... وأيضاً «التطهير العرقي والديني» الذي تمارسه «داعش» في العراق.
وليسجل التاريخ شهادة أخرى، تضاف إلى شهادات عديدين ممن واكبوا صراعات سابقة، على «صمت مريب» حيال نزاعات كان بالإمكان وأدها في مهدها، لو تحلت القوى الكبرى بالإرادة وتعالت على مصالحها الأنانية، وأيقنت أن «الوفرة» تتحقق لو تسنى لسكان الأماكن التي تجتاحها الحروب، الانخراط في مجهودات إيجابية لتنمية مناطقهم، والانصراف إلى مزاولة أعمالهم التقليدية، الحرفية والزراعية، وتوافرت لهم سبل المساعدة التقنية لتطويرها، بدل وفرة السلاح ووسائل الاقتتال.