منذ 213 عامًا.. أسس أحد المصريين مشروعًا نهضويًا ثقافيًا كبيرًا قاد الأمة المصرية والعربية لنهضة علمية.. إنه الرائد الأول لحركة التنوير في مصر والوطن العربي "رفاعة الطهطاوي".
رفاعة رافع الطهطاوي من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي، وُلد في 15 أكتوبر 1801 بمدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، نشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب، فأبوه ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ينتهي نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية.
التحق رفاعة وهو في السادسة عشرة من عمره بالأزهر في عام 1817 وشملت دراسته في الأزهر "الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف"، كما حفظ القرآن الكريم.
بدأ المنعطفُ الكبير في سيرة رفاعة الطهطاوي مع سفره إلى فرنسا سنة 1826، ضمن بعثة عددها أربعين طالبًاً أرسلها محمد علي، على متن السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت" لدراسة العلوم الحديثة.
درس الطهطاوي اللغة الفرنسية لمدة خمس سنوات، وقدم بعدها مخطوطة كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" الذي نال بعد ذلك شهرة واسعة.
عاد رفاعة لمصر سنة 1831، مفعماً بالأمل منكبّاً على العمل فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية.
وأفتتح سنة 1835 مدرسة الترجمة، التي صارت فيما بعد "مدرسة الألسن"، وعُيـِّن مديراً لها إلى جانب عمله مدرساً بها، وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافي الكبير لرفاعة الطهطاوي ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين ما يسمى بالأصالة أو المعاصرة.
ظل جهد رفاعة يتنامى بين ترجمةً وتخطيطاً وإشرافاً على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساماً متخصِّصة للترجمة "الرياضيات، الطبيعيات، الإنسانيات"، كما أنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.
وفي عهده.. قام بإصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وكذلك إصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلًا من التركية، إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.
إلا أن تلك النهضة لم تستمر كثيرًا.. فمع تولي الخديوي عباس حكم مصر، قام بإغلاق مدرسة الألسن، وأوقف أعمال الترجمة وقصر توزيع الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان سنة 1850.
وخلال أربعة أعوام من النفي، لم ييأس الطهطاوي، بل واصل استكمال مشروعه التنويري، فترجم مسرحية "تليماك" لـ"فرانسوا فنلون".
وبعد عودته لأرض مصر مع تولي الخديوي سعيد الحكم، قام بإنشاء مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة، ودفع مطبعة "بولاق" لنشر أمهات كتب التراث العربي.
ولم يستمر الوضع كثيرًا، فقد انتكس مرة أُخري في نهاية حكم سعيد، بعد اصدار الخديوي قرار بإغلاق المدارس وفصل رفاعة من عمله سنة 1861.
ومع تولي الخديوي إسماعيل للحكم عام 1863، عاد رفاعة الطهطاوي للعمل، فأشرف على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة، ويصدر أول مجلة ثقافية في تاريخنا "روضة المدارس".
كتب رفاعة الطهطاوي في كافة المجالات والعلوم، فاصدر كتاب "أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر، وتوثيق بني إسماعيل" في التاريخ، وفي التبية والتعليم والتنشئة كتب " مَبَاهِجُ الأَلْبَابِ المِصْرِيَّةِ فِى مَنَاهِج الآدَابِ العَصْرِيَّةِ"، و"المُرْشِدُ الأَمِينِ للبَنَاتِ والبنَينِ"، وفي السيرة النبوية كتب "نِهَايَةُ الإِيجَازِ فِي تَارِيخِ سَاكِنِ الحِجَازِ".
كما أصدر "القول السديد في الاجتهاد والتجديد"، "تعريب القانون المدني الفرنساوي"، "مغامرات تليماك"، "قلائد المفاخر"، و"المعادن النافعة".
خلال فترة حكم محمد علي ومعظم أبناءه الولاة، لقى مشروع رفاعة الطهطاوي استحسانهم، وبلغت ثروته يوم وفاته 1600 ألف وستمائة فدان غير العقارات، وتلك هي ثروته كما ذكرها علي مبارك باشا في خططه: "فقد أهدى له إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في "الخانقاه”، وهي مدينة تبلغ 36 فداناً، وأهداه محمد علي 250 فداناً بمدينة طهطا، كما أهداه الخديوي سعيد 200 فدانا، وأهداه الخديوي إسماعيل 250 فداناً، وأشترى الطهطاوي 900 فدان.
صدرت الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي في خمسة أجزاء قدم لها بالدراسة والتحقيق د. محمد عمارة.
تناول الجزء الأول حياة الطهطاوي وسيرته، وكذلك أهم القضايا التي عرض لها الطهطاوي في آثاره الفكرية، وتأتي في مقدمتها رؤيته العميقة للحضارة الحديثة، وتحدث الجزء الثاني عن رحلة الطهطاوي إلي فرنسا.
أما الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للطهطاوي فتناول كتابه "أنوار توفيق الخليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل"، وفي الجزء الرابع عرض د. عمارة لما كتبه الطهطاوي حول سيرة الرسول - صلي الله عليه وسلم - وتأسيس الدولة الإسلامية.
وتناول الجزء الخامس كتاب الطهطاوي "القول السديد في الاجتهاد والتقليد" وفيه يرتكز الحديث إلي الدين واللغة والأدب ويعرض للفقه والرأي ثم يتناول كتاب "التحفة المكتبية في تقريب اللغة العربية" و"جمال أجرومية" وأخيرا "الكواكب النيرة في ليالي أفراح العزيز المقمرة" ويختتم د. عمارة تحقيقه ودراسته للأعمال الكاملة للطهطاوي بما سمي "رسالة المعادن" والتي كتبها الطهطاوي مقدما بها طبعة هذا الكتاب المطبوع عام 1867.
قام عدد من الباحثين بتناول مشروع رفاعة الطهطاوي بالبحث،واصدر في ذلك كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية لرفاعة الطهطاوي" للدكتور محمد عمارة، و"الإسلام والحضارة الغربية"لمحمد محمد حسين، و"الاتجاه العقلاني عن المفكرين الإسلاميين المعاصرين" لسعيد الزهراني.
توفي رفاعة الطهطاوي عام 1873 ، عن عمر يناهز الـ 72 عام، تمكن خلالهما أن يحول حياته من شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر إلى معلمًا للأمة، وبذلك استطاع أن يلحق مصر بالعصور التنويرية بعد العصور المظلمة التي قضاها المصريون تحت حكم المماليك والعثمانيين.
اقرأ أيضًا: