فى وقت متأخر من الليل، فى بلدة أقرب إلى الريف منها للحضر، بين شوارع ضيقة متداعية، مرت الجنازة المهيبة.
لا إله إالا الله .. كان الهتاف الذي غلف المسير .. لم ير أحد الحزن يسير بين المشيّعين .. كان عرسًا .. مئات ومئات متدافعة يزفون الشهيد المقدم أحمد صلاح مالك الدشاش إلى جنة الشهداء والصديقين.
هناك .. فى جبل الحلال .. حيث تحول جبل بأكمله إلى جُحْر صغير ضيق يختبئ به عناصر إرهابية من أرباب السهام المصوبة إلى قلب مصر.. كانت عزيمة رجالنا على كسر القوس وقتل الخائن وتحطيم سهامه .. سهام نصالها مغموسة فى سم الخيانة .. زادت من شهوتها لافتراس الجسد المصرى الصابر .. راح الرجال يحفرون الخطوة تلو الخطوة فى رمال سيناء وبين صخور جبل الحلال .. وما من نية للتراجع فى خطوة واحدة.
ففي سبيل الله وسبيل هذه الأرض وهذا الشعب يكون جهادنا .. يكون خوض أقدامنا بين الأفاعى والعقارب .. فإما أن ندهسها ونقطع رؤوسها .. أو ترتوى أجسادنا بسُمّها بدلا عنك يا مصر .. هذا هو المبدأ الذى اتفق عليه الرجال ولم تضطرب نبضة قلب واحدة على غير هذا العهد .. فعفـَّروا جباههم سجودًا لله بتراب سيناء و حملوا السلاح .. كم كان خفيفًا.. كم كان رقيقا .. كم كان صوت طلقاته المدوية تسرى بين آذان الأبطال كأنغام قيثارة ناعمة حالمة .. ويسرى صوت الطلقة تلو الأخرى وصداها بين رؤوس أعداء مصر كالصيحة تلو الصيحة تأتيهم من السماء عالية غاضبة خاطفة.
راحت العقارب والأفاعى تدافع عن نفسها عبثًا دون إدراك .. بيد مشتتة وغير مستقرة .. تلقى بطلقاتها مندفعة بين صفوف الرجال .. فاستقبلوها مرحبين كأنّها الزهور تلقى على الرؤوس يوم العيد .. نعم .. كان ذلك اليوم هو العيد .. عيد الشهادة والبراءة من كل دنس .. لقد نالوها .. اختطفها الأسود من بين مخالب الضباع .. إنها الشهادة .. بعدما تجاوزوا أعلى مراتب الإيمان بأميال وأميال سعيا.
بالأمس .. عشرة بُشِروا بالجنة.. ثلاث ضباط وسبعة من المجندين .. على رأسهم المقدم أحمد صلاح مالك الدشاش ابن بلدة قلين بمحافظة كفر الشيخ .. عاد الى بلدته محاطا بأجنحة الملائكة .. لتستقبله مئات الأسر فى ساعة متأخرة من مساء الخميس 23 من مارس 2017م بالزغاريد لا بالدموع .. حُمِل على الاكتاف مُـشيعا يسير فى إثره الأب بقلب لم ينقسم ولم يتشكك فى أمر الله .. بل مرحبًا بكلمته وواثقًا فى رحمته.
يستمر المسير حتى يوضع الجسد الطاهر .. تحضنه راية الأم التى بذل روحه فداءها .. راية مصر .. فصلوا عليه صلاة لا ركوع ولا سجود فيها .. ليمرره أهله من باب الدنيا إلى الجنة يسكنها .. تتبعه أنفاس أهله الصابرين ودعوات أُمّةٍ بأثرها شاكرة راضية عنه.