"فلاح من جنسنا.. ما لوش مرة عابت، عمل حاجات معجزة.. وحاجات كتير خابت، وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت، وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت".
بتلك الأبيات، رثى الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم آخر من نادى بالوحدة العربية من الرؤساء والزعماء، على ما كان بينهما من خلافات وسجالات في حياته، وصلت إلى حد الاعتقال، لكنه أمام مشهد جنازة ثاني رئيس لمصر وقف باكيا يرثي مناهضا للاستعمار وداعما الثورات العربية في الجزائر، وليبيا، والعراق واليمن، ذا الدور الرئيسي في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
جمال حسين عبد الناصر سلطان على عبد النبي، ولد في (15 يناير 1918)، وهو ثاني رئيس لمصر في الفترة من 1956 حتى وفاته في 1970، شارك في قيادة ثورة 23 يوليو 1952 التي أطاحت بالملك فاروق وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر.
وكان عبد الناصر مؤيدا للعروبة ومناهضا للاستعمار، ودعم الثورات العربية في الجزائر، ليبيا، العراق واليمن، وكان له دور رئيسي في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وحركة عدم الانحياز، وقد تولى منصب رئاسة الوزراء عشر مرات، كما أصدر قرار تأميم القناة شركة مساهمة مصرية، وبدأ بناء السد العالي لكن عمره لم يسمح له بافتتاحه.
زعيم.. أم طاغية
ويعد الملف الحقوقي هو الملف الأكثر جدلا في حياة عبد الناصر، فبينما يذكره مؤيدوه على أنها زعيم وطني قوي واجه قوى الاستعمار العالمية وأعلى من شأن شعبه، يقول معارضوه إنه كان "طاغية" عذّب معارضيه وألقى بهم في غيابات السجون العسكرية وقتل منهم من قتل، وأنهى حياته وثلث الوطن (سيناء) محتل، كما تنازل عن السودان وغزة.
واشتهر عبد الناصر بكاريزمته الفائقة، وقد أورثه ذلك علاقة حميمة مع المصريين، فقد كان خطيبا مفوهًا حتى إنه ألقى 1359 خطبة بين سنتي 1953 و1970، وهو رقم قياسي بالنسبة لأي رئيس مصري، وقال عنه المؤرخ إيلي بوده: إن من "الثوابت في شخصية عبد الناصر "قدرته على تمثيل الأصالة المصرية، في الانتصار أو الهزيمة".
وتعد ذروة شعبية عبد الناصر عقب ما تعرض له من محاولة اغتيال نسبت إلى أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين ينفون ذلك بشدة ويصفونه بالتمثيلية، وقد وقف عبد الناصر يومها مخاطبا الجموع المحتشدة أمام منصته في ميدان المنشية بالإسكندرية قائلا: "إن مات عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر".
خطابة عبد الناصر وكاريزمته كانت حاضرة أيضا في أصعب المواقف حينما خرج مهزوما أمام العدو الصهيوني عام 1967 واحتلال سيناء (النكسة)، حيث خرج في التليفزيون الرسمي باكيا يطلب من الشعب التنحي وتفويض صلاحياته لزكريا محيي الدين، لكنه عاد أدراجه إلى السلطة بعد أن خرجت المظاهرات ترفض تنحيه وتطالبه بالعودة، كما ساهمت الصحافة الوطنية أيضا في تعزيز شعبيته، خاصة بعد تأميم وسائل الإعلام الرسمية.
ووُلد جمال عبد الناصر بالإسكندرية قبيل أحداث ثورة 1919، التي هزّت مصر، وحركت وجدان المصريين، وألهبت مشاعر الثورة والوطنية في قلوبهم، وبعثت روح المقاومة ضد المستعمرين.
وعندما حصل جمال على شهادة الثانوية من مدرسة النهضة المصرية بالقاهرة عام 1937م، كان يتوق إلى دراسة الحقوق، ولكنه ما لبث أن قرر دخول الكلية الحربية، بعد أن قضى بضعة أشهر في دراسة الحقوق. دخل الكلية الحربية، ولم يكن طلاب الكلية يتجاوزن 90 طالبا، وبعد تخرجه في الكلية الحربية عام 1938م التحق بالكتيبة الثالثة بنادق، وتم نقله إلى "منقباد" بأسيوط؛ حيث التقى بأنور السادات وزكريا محيي الدين.
48.. والضباط الأحرار
كانت الفترة ما بين 1945م -1947م هي البداية الحقيقية لتكوين نواة تنظيم الضباط الأحرار؛ فقد كان معظم الضباط، الذين أصبحوا -فيما بعد-اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار، يعملون في العديد من الوحدات القريبة من القاهرة، وكانت تربطهم علاقات قوية بزملائهم؛ فكسبوا من بينهم مؤيدين لهم.
وكانت حرب 1948م هي الشرارة التي فجّرت عزم هؤلاء الضباط على الثورة ضد الفساد، بعد النكبة التي مُنِيَ بها العالم العربي في حرب فلسطين، وفي تلك الأثناء كان كثير من هؤلاء الضباط منخرطين بالفعل في حرب فلسطين.
وفي صيف 1949م نضجت فكرة إنشاء تنظيم ثوري سري في الجيش، وتشكلت لجنة تأسيسية ضمت في بدايتها خمسة أعضاء فقط بينهم جمال عبد الناصر.
وفي ذلك الوقت تم تعيين جمال عبد الناصر مدرسا في كلية أركان الحرب، ومَنحُهُ رتبة بكباشي (مقدم)، بعد حصوله على دبلوم أركان الحرب عام 1951م في أعقاب عودته من حرب فلسطين، وكان قد حوصر هو ومجموعة من رفاقه في "الفالوجا" أكثر من أربعة أشهر، وبلغ عدد الغارات الجوية عليها أثناء الحصار 220 غارة.
بعد سلسلة من الإخفاقات التي واجهها الملك داخليا وخارجيا وخصوصا تخبطه في علاقاته أثناء الحرب العالمية الثانية بين دول المحور والحلفاء مما زعزع موقف مصر كثيرا وأدى إلى إنشاء ثاني أكبر قاعدة بريطانية في المنطقة في السويس وكذلك موقفه في حرب 1948 التي خسر فيها الحرب، بدأ تنظيم الضباط الأحرار تحركه ضد الملك.
الثورة ونجيب
وفي 23 يوليو 1952م، قامت الثورة؛ فلم تلقَ مقاومة تُذكر، ولم يسقط في تلك الليلة سوى ضحيتين فقط، هما الجنديان اللذان قُتلا عند اقتحام مبنى القيادة العامة.
وكان الضباط الأحرار قد اختاروا "محمد نجيب" رئيسا لحركتهم، وذلك لِمَا يتمتع به من احترام وتقدير ضباط الجيش؛ لسمعته الطيبة وحسه الوطني، فضلا عن كونه يمثل رتبة عالية في الجيش، وهو ما يدعم الثورة ويكسبها تأييدا كبيرا؛ سواء من جانب الضباط، أو من جانب جماهير الشعب، لكن صراعا نشب بين ناصر ونجيب ما لبث أن حسمه عبد الناصر لصالحه في 14 نوفمبر 1954م، بعد أن اعتقل محمد نجيب، وحدد إقامته في منزله على نحو مهين، وانفرد وحده بالسلطة.
واستطاع عقب تلك الواقعة أن يعقد اتفاقية مع بريطانيا لجلاء قواتها عن مصر في 19 أكتوبر 1954م، وذلك بعد موافقته على التخلي عن وحدة مصر والسودان.
اليمن.. فيتنام مصر
ثورة 26 سبتمبر أو حرب اليمن، قامت ضد المملكة المتوكلية اليمنية في شمال اليمن عام 1962 وقامت خلالها حرب أهلية بين الموالين للمملكة المتوكلية وبين الموالين للجمهوريّة العربية اليمنية واستمرت ثمان سنوات، بدأت الحرب عقب انقلاب المشير عبد الله السلال على الإمام محمد البدر حميد الدين وإعلانه قيام الجمهورية في اليمن، تلقى الإمام البدر وأنصاره الدعم من السعودية والأردن وبريطانيا وتلقى الجمهوريين الدعم من مصر جمال عبد الناصر.
وقد جرت معارك الحرب الضارية في المدن والأماكن الريفية، وشارك فيها أفراد أجانب غير نظاميين فضلاً عن الجيوش التقليدية النظامية، وأرسل عبد الناصر ما يقارب 70,000 جندي مصري، واستنزفت الحرب طاقة الجيش المصري وأثرت على مستواه في حرب 1967 وأدرك جمال صعوبة إبقاء الجيش المصري في اليمن.
ويشير المؤرخون العسكريون إلى حرب اليمن بأنها فيتنام مصر. وقد كتب المؤرخ ميخائيل أورين أن "مغامرة" مصر العسكرية في اليمن كانت كارثة لدرجة أنه "يمكن مقارنتها بحرب فيتنام"، كما أنه بحلول عام 1967، كان هناك 55,000 جنديًا مصريًا مرابطًا في اليمن، من ضمنهم الوحدات الأكثر خبرة وتدريبًا وتجهيزًا في كل القوات المسلحة المصرية. وقد خلق غيابهم عن أرض الوطن فجوة في الدفاعات المصرية، وأثر ذلك كثيرًا على مصر خلال حرب يونيو 1967.
وحدة.. ونكسة.. واستنزاف
وفي عام 1958 أقام عبد الناصر وحدةً اندماجية مع سوريا لكنها لم تدم طويلا، إذ عاد الشطر السوري للانفصال عام 1961، ثم تم عقد معاهدة وحدة متأنية مع العراق وسوريا عام 1964 إلا أن وفاة الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف عام 1966 ثم حرب يونيو حالت دون تحقيق الوحدة، ورغم ذلك استمرّت مصر في تبني اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971م أي إلى ما بعد رحيل عبد الناصر بعام.
لكن العام الأشد قسوة على عبد الناصر كان في 1967، إذ منيت القوات المصرية بهزيمة مدوية أمام العدو الصهيوني، وخرج عبد الناصر على الجماهير طالباً التنحي من منصبه إلا أنه خرجت مظاهرات في العديد من مدن مصر وخصوصا في القاهرة طالبته بعدم التنحي عن رئاسة الجمهورية.
وفي يناير 1968، بدأ عبد الناصر حرب الاستنزاف لاستعادة الاراضي التي احتلتها إسرائيل، وأمر بشن هجمات ضد مواقع إسرائيلية شرق قناة السويس ثم حاصر القناة، كما عرض في مارس مساعدة حركة فتح بالأسلحة والأموال بعد أدائهم ضد القوات الإسرائيلية في معركة الكرامة في ذلك الشهر، وردت إسرائيل على القصف المصري بغارات الكوماندوز، عن طريق القصف المدفعي والغارات الجوية. وأدى ذلك إلى نزوح المدنيين من المدن المصرية على طول الضفة الغربية لقناة السويس.
رحيل ناصر
وبعد توترات متزايدة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة في الأردن وصلت إلى حد إطلاق الأردن حملة عسكرية للقضاء على قوات منظمة التحرير الفلسطينية، دعا ناصر لعقد القمة العربية الطارئة في 27 سبتمبر 1970، للدعوة لوقف إطلاق النار.
وبعد انتهاء القمة يوم 28 سبتمبر 1970، عانى ناصر من نوبة قلبية. ونقل على الفور إلى منزله، حيث فحصه الأطباء، لكن ناصر توفي بعد عدة ساعات، ووفقا لطبيبه، الصاوي حبيبي، كان السبب المرجح لوفاة عبد الناصر هو تصلب الشرايين، والدوالي، والمضاعفات من مرض السكري منذ فترة طويلة.
بعد الإعلان عن وفاة عبد الناصر، عمت حالة من الصدمة في مصر والوطن العربي، وحضر جنازة عبد الناصر في القاهرة في 1 أكتوبر من خمسة إلى سبعة ملايين مشيع، كما حضر جميع رؤساء الدول العربية، باستثناء العاهل السعودي الملك فيصل، وبكى الملك حسين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات علنا، وأغمي على معمر القذافي من الاضطراب العاطفي مرتين، وحضر عدد قليل من الشخصيات غير العربية الكبرى، منها رئيس الوزراء السوفيتي أليكسي كوسيجين ورئيس الوزراء الفرنسي جاك شابان دلماس.
اقرأ أيضًا: