
طيش شباب.. أم تحدٍ للذات؟!
فتحى النادى
طيش شباب.. أم تحدٍ للذات؟!
نصف قرن من العمل العام حاولت خلالها أن أحلق فوق أي مكان أعمل به أو أزوره بجناحين: العلم والخبرة العملية.. ألتقي بكم هنا كل أسبوع مرة في محاولة للتحريض على التفكير في أمور حياتية من خلال مواقف تعرضت لها وتعلمت منها.
من أبرز أخطائى وأنا شاب يافع لايزال في مرحلة التعليم الثانوى أنى بعد أن قرأت عشرة أو خمسة عشرة كتابا مختلفا راودتنى نفسى بأن أكون كاتبا مرموقا مثل من قرأت لهم أو سمعت عنهم.
حدثتنى نفسى بأن طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ مش أحسن منى فى حاجة لاسيما وقد ولاّنى أساتذة اللغة العربية رئاسة تحرير مجلة الفصل.. وبناء عليه اتفقت مع زميل دراسة وجارى في السكن لديه نفس الأعراض أن نؤلف مجموعة قصصية (نعم .. مرة واحدة كده) هو يجيد الرسم ومالوش فى الكتابة مثلى، وأنا من قبيلة بنى خيبان في الرسم (يمكن ده يفسر ليه باأتمسح في سحر بنتى كل شويه) ولكنى خطيب المدرسة وحامل مفتاح الإذاعة المدرسية بعد أن تم اختيارى ممن يحصلون على تعليق "أحسنت" وبمباركة مدرس اللغة العربية الأستاذ محمد السيد في موضوعات التعبير وممن يقرأون النصوص الإنجليزية بصوت عال أمام الفصل ولا يخجلون من الأخطاء (طبعا كل زملائى حينئذ كانوا فاكرين إنى أتكلم الإنجليزية بطلاقة خاصة بعد أن رأونى في المكتبة التي كان المسئول عنها مدرس اللغة الإنجليزية الأستاذ أنور هندى).
كتبت 3 قصص قصيرة وقام سمير برسم الغلاف الذى كان ولابد أن يعبر عن حالة الغم التى سوف تشيع فى كل القصص (وجه برئ تنحدر على خديه دمعتان بحجم خزر السبحة أيام زمان) درنا على مطابع مدينة المنصورة ومعنا كراسة مكتوبة بخط اليد تحوى أفكارنا النيرة التي سوف نفيد بها البشرية ولاشك حتى وجدنا صاحب مطبعة رق لحالنا واشترط علينا أن نأتى للمطبعة بعد العاشرة مساء وسوف يخصص عامل جمع (طبعا قبل الكمبيوتر والكلام الفارغ بتاع اليومين دول) نقوم بإملائه وهو يرص الحروف حتى ننتهى من الطباعة وذلك نظير أجر زهيد أظنه كان دون الجنيه بكثير.. وبذلك نكون قد أسهمنا بقروش قليلة في إنشاء أول دار نشر في منطقة تسمى "الحوّار" بالمنصورة.
التزمنا بالموعد المحدد لنا حتى لا تضيع فرصة خروج كتابنا إلى النور، ولكننا حين وصلنا للمطبعة وقابلنا العامل اكتشفنا أنه ثقيل السمع فكان ولابد أن نغلق باب المطبعة علينا إلا قليلا حتى لا نسبب إزعاجا لسكان العقارات المجاورة ونحن نرفع أصواتنا لكى يسمع ما نقول (مرة أطل علينا عسكرى الداورية لكى يستطلع ما يجرى خلف باب المطبعة) كنا نعود لمنازلنا بعد منتصف الليل بقليل وما أدراك بما يلحق أمثالنا من المارقين غير منضبطى السلوك المتمردين على التقاليد والأعراف التى كان معمولا بها فى ذلك الزمان من الأهل لكى لا نعود لمثل ذلك أبدا ما حيينا. صدرت المجموعة القصصية وعلى غلافها بجوار دموع البطلة عبارة "باكورة انتاج فتحى النادى وسمير عبد العزيز" (اسمى الأول باعتبارى الكاتب الذى لايشق له غبار).
طبعا فكرنا فى تدبير تكاليف الطباعة الباهظة وهل ندفعها من مصروفنا الزهيد؟ لأ طبعا.. ذهبنا لمحل نظارات يملكه رجل مشهور في شارع السكة الجديدة بالمدينة اسمه صبحى بانوب وأقنعناه أن يضع إعلانا على الغلاف الخلفى.. بالتأكيد صعبنا عليه فأعطانا 50 قرشا وقام سمير برسم الإعلان (طبعا مش أكثر من واحدة لابسة نضارة) ثم ثارت مشكلة أخرى: بكم نبيع هذه المجموعة القيمة؟ اتفقنا على أن قرشين صاغ تكفيان لسداد تكلفة الطبعة الأولى (راودتنا فكرة أن نكرر التجربة طبع بعد النجاح الساحق الذى كنا نتوقعه) وزعنا الكام نسخة التى تم طباعتها وحفلت بكل الأخطاء اللغوية وأخطاء الجمع طبقا لما كان يصل لسمع عامل المطبعة وكلمات لا علاقة لها باللغة العربية وبالتأكيد من قاموا بشراء العدد المحدود من الزملاء (لم نجرؤ على أن نقترب من أساتذتنا خشية حدوث مالا تحمد عقباه خاصة وأن القصص طبعا كان بها بعض المواقف العاطفية من نوع تسبيل العينين واحمرار الخدين).. تجنبنا فضيحة كان يمكن أن تتردد أصداؤها ليس فقط في كل جنبات مدينة المنصورة من أول حى توريل إلى شارع الثانوية بل وكل القرى المجاورة.
طبعا سوف يتبادر إلى ذهن القارئ أن يسأل عما إذا كنت قد احتفظت بنسخة من هذا الإبداع والإنجاز العظيم.. أقول ضرورى أن يكون هناك نسخة فى مكان ما بين أوراقى، ولكنى على ما يبدو كنت أشعر بأنى ارتكبت خطيئة كبرى فأخفيتها بحيث لا يستطيع أحد أن يهتدى إليها حتى لو حاولت أنا نفسى أن أبحث عنها.