رئيس التحرير: عادل صبري 08:22 مساءً | الاثنين 05 مايو 2025 م | 07 ذو القعدة 1446 هـ | الـقـاهـره °

خمسون عامًا من الهزائم

خمسون عامًا من الهزائم
20 يونيو 2017

خمسون عامًا من الهزائم

خالد داود

خمسون عامًا من الهزائم

 

ولدت في العام 1967. طبعا هذا أمر لا يستحق الكتابة عنه لو أنني كنت ولدت في أي مكان آخر في العالم عدا مصر. فمنذ مولدي وأنا تلاحقني سنة ميلادي كالوصمة، رغم أنني بالطبع لم يكن لي أي دخل في تحديد هذا الميعاد.

 

يسألني أصدقاء والدي وأنا طفل صغير عن سنة ميلادي، بينما ترتسم على وجوههم ابتسامة كبيرة وربما المداعبة التقليدية للأطفال. وفور أن أقول ولدت في العام 1967 تختفي الابتسامة في لمحة بصر، وتتغير ملامح الوجه لتشابه من تلقى صفعة على وجهه أو أصابه ألم شديد في جسده. اليد التي كادت أن تمتد لمعانقتي كطفل تبتعد فجأة، وربما يتم استبدالها بدفعة خفيفة للخلف، بينما يردد السائل: "أعوذ بالله، مولود في 1967. دي سنة نحس".. ولم أكن أفهم طبعا ما هو النحس في الرقم، ولا ما حدث في هذا العام.

 

كبرت قليلا، وسألت والدي لماذا يعاملني أصدقاؤه بهذا الجفاء كل ما سألوني عن سنة مولدي وأجبت 67؟ صمت والدي، بالطبع لم تعلو وجهه معالم العبوس التي ألحظها على وجوه أصدقائه، فهو شريك أساسي في الجريمة. ولكن بدأت عيناه تلمع، ثم تدفقت عدة دمعات على خده.

 

الدموع كانت تعبيرا عن حلم كبير يبدو أنه كان قد بلغ عنان السماء، ثم سقط على الأرض سقوطا مدويا، سريعا جدا في لمح البصر، في ساعات، وفي ستة أيام فقط، بعد 15 عاما كاملة من الحلم والطموح بالانتصار في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952. الهزيمة كانت ساحقة ماحقة، تفوق العقل والخيال بعد أن حشد الإعلام الرسمي الكذّاب ملايين العرب والمصريين وراء ثقة مفرطة أن النصر قادم لا محالة ضد العدو الصهيوني.

 

الإعلام الذي يحسد الرئيس السيسي سلفه عبد الناصر لأنه "كان كله معاه" قال للمصريين أن جيشنا في طريقه لتل أبيب، وأن إسرائيل الصغيرة التافهة ستغرق في البحر، ليس بفعل الحرب والقتال، ولكن فقط لو قام كل مواطن عربي بالبصق مرة واحدة تجاه العدو. فنحن عشرات الملايين، وهم عصابة صغيرة من المجرمين العنصريين القتلة.

 

لم نقاتل، بل لم تتحرك قواتنا ولا طائراتنا. تم ضرب كل طائراتنا ودباباتنا على الأرض. عشرات الآلاف من جنودنا الأبطال تركتهم قيادتهم يهيمون على وجوههم في وسط صحراء سيناء القاحلة من دون خطة انسحاب منظمة. ومن لم يقتله الإسرائيليون بدم بارد وفي جرائم حرب متعمدة بالدهس بالدبابات، قتله العطش. تم احتلال سيناء بالكامل والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، وتضاعفت مساحة تل أبيب، ولم تغرق في البحر. تم احتلال القدس الشريف منبع كل الديانات السماوية، وحيث ولد المسيح وحيث يقع المسجد الأقصى الذي باركه الله وجعل منه نقطة انطلاق النبي نحو السماء في الإسراء والمعراج.

 

نعم، اجتهد الأستاذ محمد حسنين هيكل وأطلق على الهزيمة المريعة وصف "النكسة". ربما كان ذلك ضروريا في حينها لكي يتم البدء في الإعداد لحرب 1973 التي استرددنا معها بعضا من كرامتنا المهدرة. ولكن كل من انتمى لذلك الجيل كان يعرف جيدا أنها هزيمة، هزيمة كسرت النفوس والمعنويات والكرامة لسنوات وعقود قادمة.

 

لم يكن والدي الوحيد الذي رأيت الدموع في عينيه من بين أبناء جيله كلما ورد ذكر سنة الهزيمة. كان هذا هو نفس رد فعل أستاذة لي في الجامعة أقدرها كثيرا عندما سألتها عن سبب الهزيمة. كانت هي أيضا تمتلىء على ما يبدو بالآمال والطموحات الكبيرة الواسعة بأمة عربية خارقة تفرض إراداتها ليس فقط على إسرائيل الصغيرة، ولكن على أمريكا وكل قوى الاستعمار الغربي المتكبرة. لذلك كان البكاء على ضياع الحلم.

 

انتصرنا في العام 1973 بدون أي شك. كانت صفعة قوية على وجه العدو المتغطرس وحليفه هنري كيسنجر الذي فور أن بلغته أنباء أن المصريين قاموا بعبور القناة، اقترح على المصريين العودة لخطوط ما قبل انطلاق الحرب، زاعما أنه يقوم بذلك ليس حبا في إسرائيل ولكن خشية على العرب من هزيمة أكثر قسوة من 1967 تضيع معها القاهرة ودمشق. لم يوافق السادات على الانسحاب، وتمسك بالأرض التي تم تحريرها، ولكن لم تنته آثار الهزيمة المريعة التي حلت بذلك الجيل قبلها بسنوات قليلة.

 

وعند اقترب موعد تخرجي من الجامعة، وبدأت إجراءات الالتحاق بالخدمة الإلزامية في القوات المسلحة، سرت إشاعة قوية بين زملاء الدفعة أن مواليد العام 1967 سيتم إعفاءهم من الخدمة "عشان انتم نحس" لم يتم إعفاءنا من الخدمة، والتحق الخريجين بالجيش كما كل أقرانهم من مواليد الأعوام السابقة واللاحقة، ولكن لم تمنح آثار الهزيمة.

 

هي خمسون عاما من الهزائم، وليست هزيمة 1967 فقط، والتي كانت علامة بداية الانحدار السريع. كنت أقول لنفسي دائما وأتمنى أن يمنح الله أبناء جيلي واقعة أو حدثا يجعل الناس تتناسى بعض الشئ أنني وُلدت في ذلك العام النحس. لم أشهد انتصارا واحدا لأمتنا منذ مولدي. جاءت ثورة 25 يناير 2011، وبينما أنا أقفز فرحا مع ملايين المصريين بتحقيق إرادة الشعب وإزاحة الديكتاتور الفاسد وأسرته، ظننت أن هذا هو الحدث الذي سيمحو آثار الهزيمة، وسجدت شكرا لله أنه منحني الفرصة لكي يكون في حياة جيلي انتصار وحيد.

 

لم يطل الانتصار، وتم الالتفاف حوله سريعا وإحباطه، تماما كما تم الالتفاف على انتصار 1973 وإحباطه. هل سيشهد جيلي أي انتصار؟ التوقعات الموضوعية لا تشير إلى ذلك. وبعد أن أدت هزيمة 1967 إلى ضياع الأرض، فإننا الآن نواجه احتمالات قوية لضياع دول بأكملها.

 

يبدو أن جيلي ينطبق عليه المثل المصري الشهير: "المنحوس منحوس، ولو علقوا على راسه فانوس". الفانوس هو ثورة 25 يناير، والذي أتمنى ألا ينطفىء.

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية