
جوايا اتنين عايشين !
دينا نجم
جوايا اتنين عايشين !
منذ عدة شهور وبينما كنت أقود سيارتي على الطريق السريع، شرد ذهني تماما ولم أنتبه إلا وأنا أصدم بسيارتي سيارة أخرى لا أعلم من أين جاءت ومتى.. نزل قائد السيارة وجاء إليّ غاضباً وهو يصرخ.. ظللت أنظر إليه في صمت حتى انتهى من صراخه فتحركت بسيارتي ووقفت جانبا وأغلقت جميع النوافذ وانفجرت باكية بشدة.. لم أكن أبكي من الحادثة ولا من خسائرها ولا من صراخه... ولكن كان هناك شيء آخر.
على مدار حياتي، كنت مثلي مثل أي شخص تلقي به الظروف في مواقع المسؤولية دائماً.. يعتمد عليه الجميع في كل شيء.. في الجامعة كنت أتولى مهمة الشرح لزملائي ومساعدتهم.. وفي العمل، فرض عليّ منصبي المسؤولية أيضاً.. مسؤولة عن اتخاذ القرارت السهل منها والمعقد.. مسؤولة عن تقرير مصائر أشخاص ورسم خريطة مستقبلهم.. مسؤولة عن نجاح مشاريع وكذلك فشلها إن حدث وفشلت... أحببت فكرة أن يتذكرني الجميع كلما احتاجوا إلى المساعدة وأن يطمئنوا كلما علموا أنني في موقع القيادة.. حتى آمنت أنني خلقت لكي أكون مسؤولة عن نفسي وغيري.. فتوقفت تدريجيا عن طلب المساعدة فظن الجميع أنني لا أحتاجها.. وصدقت أنا شخصيا ذلك وبدأ يروق لي لقب المرأة المستقلة القادرة على أن تتولى كل أمورها بنفسها ولا تحتاج لمساعدة أحد!
ولكن من حين لأخر كانت تمر بي أوقات وظروف تبدو عادية بسيطة لا تستحق حتى الحديث عنها ولكن بالنسبة لي لم تكن كذلك.. أصاب بدور برد فأشعر بضعف لا أشعر به وأنا على وشك اتخاذ قرار مصيري.. أصل إلى مطار ببلد آخر في رحلة عمل وبينما أحاول جاهدة السيطرة على حقائبي أنظر حولي وأتمنى لو كان هناك من ينتظرني ليساعدني.. أصدم سيارة في لحظة عدم تركيز بلا خسائر حقيقية فأجد نفسي في نوبة بكاء تلاحقني أحاسيس الضعف وقلة الحيلة.. أشعر إني بحاجة للمساعدة.. أريد أن أطلبها ولكن لا ليست هذه أنا.. أنا لا أطلب مساعدة.. ولا ينتظر أحد مني أن أفعل ذلك، أنا امرأة قوية وعليّ إثبات ذلك طول الوقت!
أصبحت أخجل من إظهار الضعف وعدم القدرة على مواجهة الصعاب.. وأحرص كل الحرص على إخفاء دموع الخوف والاحتياج.. صار بداخلي صراع مستمر بين حاجتي الملحة للدعم والمساندة ورغبتي الشديدة في إخفاء ذلك.. أشعر بكثير من التناقض في شخصيتي ولا أعلم حتى كيف أصف نفسي في كلمات.. هل أنا شخص صلب حقا قادرا على مواجهة متاعب الحياة دون مساعدة أحد؟! أم أنني كائن ضعيف تهزه أصغر المواقف ويقف عاجزا أمام أبسط الأزمات؟! حتى توصلت أخيرا إلى مصدر قوتي وسبب حيرتي!
"فاقد الشئ لا يعطيه".. كم هي كاذبة تلك المقولة! فاقد الشئ هو أكثر من يشعر بقيمته وهو الأجدر والأحرص على عطائه.. فكم من قوة نستمدها من ضعف من حولنا وحاجتهم لمساعدتنا.. وكم من مرة نسينا فيها ما نريد حتى نحقق آمال من حولنا فأشعرنا هذا العطاء بالإكتفاء والفخر والسعادة.. فهذا هو مصدر قوتنا الذي يجعلنا نرتدي ثوب المسؤولية، وننسى مؤقتاً نواقصنا وضعفنا.
ولذلك ستجد من يعطي وهو في أقصى درجات الاحتياج.. من يشعرك بالأمان وهو يفتقده بشدة.. من يقتل خوفك بينما يموت هو في داخله من الخوف.. من يغمرك بالحب بينما مازال يفتش عنه في كل مكان.. لأن أكثر ما يمكن أن يعوض الإنسان عن شيء افتقده بحكم وضعه وظروفه هو أن يحمي غيره من فقدانه.
ولكن وسط كل ذلك... حتماً ستمر عليه لحظات يشعر فيها بإنه ليس قادرا على العطاء .. لحظات ستجعله يسأل نفسه : وماذا عني؟ تلك اللحظات هي حق مشروع لأي إنسان.. وعليه ألا يكرهها ولا يكافحها بل على العكس أن يستسلم لها وألا يقسو على نفسه.. وأن يطلب المساندة ويجد من يكون إلى جواره.. والأهم من ذلك ألا يعتبر ذلك ضعفا أو نقصا أو تناقضا... بل دليلا حيّا ساطعا على إنه مازال إنسانا !