خط المنتحرين
عزت أمين
خط المنتحرين
اليوم سأتحدث عن تجربتى الشخصية كمتطوع فى مركز يدعى Befrinders Cairo أو "الصديق المقرب"، متخصص فى تلقى مكالمات هاتفية لمن تسيطر عليهم فكرة الانتحار، أو من حاولوا بالفعل إنهاء حياتهم من قبل.
وبمناسبة وقفة أعضاء نادى الجزيرة ضد ما أسموه "مذبحة القطط" وسخرية البعض منهم، أتذكر الآن أننا كنا نتلقى فى المركز عدة مكالمات من أشخاص مصابين بالاكتئاب بسبب وفاة حيواناتهم الأليفة، تعلمت أنه لا يصح الحكم عليهم بأنهم أشخاص تافهين؛ لأنى ببساطة لا أعلم ما هى أهمية القط أو الكلب للمتصل، قد يكون هذا الكائن هو السبب الوحيد الذى أبقى المتصل أو المتصلة على قيد الحياة حتى الآن، والسبب الوحيد لاستيقاظهم من النوم ليتحملوا يوما آخرا فى حياتهم، أما عندما تخبر من يشكو إليك وفاة كلبه: "فى داهية كلبك يا أستاذ، ده فيه فقراء مش لاقيين يأكلوا"، فأنت لم تحل مشكلته، بل أضفت إلى أحزانه أحزانا أخرى، ووصفت معاناته بالتفاهة، سواء عن عمد أو دون عمد. فى هذا المركز، تعلمت أنه عندما يشكو أحدهم من تساقط شعره ألا أتسرع وأخبره أن هناك مصابين بسرطان الدم، وألا يكون ردى على من يشكو من تكرار الانقطاع الكهربائى: "مش أحسن ما نبقى سوريا والعراق".
أثناء فترة التدريب قبل تلقى المكالمات شدد المشرفين على عدم إعطاء أى نصيحة للمتصل ومقاومة غريزة "الفتى" بكل الأشكال، وأن نستمع فقط استماعا إيجابيا active listening، تدربنا كثيرًا على إرشاد المتصل إلى حل مشكلته بنفسه، وهذا ما كان يحدث بالفعل فى معظم الحالات، الفكرة أنه عندما تتراكم عليك المشاكل، فأنت تفقد القدرة على التركيز وتشعر بتعقد الأمور، وفى لحظة هى اليأس ذاته قد تصل إلى قرار الانتحار، وظيفة المتطوع هو مساعدتك على تفريغ الشحنة السلبية من المشاعر عن طريق الكلام والفضفضة دون أن يقوم بالحكم عليك أو إعطائك نصيحة، والأهم أنه سيستمع إليك بكل تركيز، وبعد مكالمة واحدة أو عدة مكالمات سيجد المتصل حل مشكلته بنفسه لأنه أدرى الناس بظروفه وأنت ساعدته على رؤية الأمور بوضوح، أما تقديم الحلول الجاهزة من المتطوع فقد تزيد الأمور تعقيدا حتى لو بدا الحل بديهيا.
قيل لنا أثناء فترة التدريب إن رجلا كان يشتكى من معاملة زوجة ابنه، وأنها تحرمه من رؤية حفيده، تسرع المتطوع وقتها ونصحه بأخذ هدية لها ومفاجأتها هى وابنه وحفيده بزيارتهم فى منزلهم. استمع الرجل لنصيحة المتطوع فطردته المرأة شر طردة فساءت حالة الرجل وتحول من رجل مكتئب إلى رجل يفكر جديا فى الانتحار.
كانت هذه عن تجربتى مع Befrinders Cairo وقد أفادتنى كثيرًا على المستوى الشخصى، تعلمت هناك ألا أحكم على أحد، وألا أتسرع بإعطاء النصائح، وأن أستمع وألا أملأ الصمت بين جمل محدثى بكلمات مقولبة عن تجاربى الشخصية وحكمتى، رأيت هناك متطوعين على درجة عالية من الثقافة وشخصيات ثرية للغاية استفدت منها كثيرا، كما أن المكالمات نفسها عرضتنى لتجارب إنسانية نادرة للغاية، وتعرفت على جانب فى المجتمع لم ولن أراه فى الإعلام أو فى الكتب أو الجامعة، رأيت ما تحت السجادة لمجتمع يعشق أن يدارى تراب أمراضه بدلا من تنظيفه، تعرضت لتقيحات مجتمعية كزنا المحارم وجحود الأبناء وظلم الآباء والهوس الجنسى والعنصرية، رأيت جزءا من المجتمع عاريا وعلى حقيقته، عرفت لماذا نصرخ قائلين بمناسبة ودون مناسبة إننا متدينون بطبعنا ونعشق تراب بلادنا، وإننا أفضل بسبب ما نسميه "عاداتنا الشرقية"، كل هذه الهستريا الدينية الوطنية الأخلاقية ما هى إلا محاولة بائسة لتغطية ما تحت السجادة من أهوال وأمراض مجتمعية أصابتنا، لقد رأيت أو للدقة سمعت صوتا آخر ومشاكل لم أكن أعلم أنها موجودة أصلا، فالمكالمة التى تبدأ بفتاة تشكو أنها حامل من والدها أو أخيها أو عمها غدت بعد فترة شيئا معتادا ولا يثير دهشة المتطوعين.
رجاء شخصى عندما تقرر التطوع لا تذهب إلى الأماكن الفقيرة كى تحمد الله على أنك لست منهم، فهذه طريقة تفكير مشبعة بالتعالى، وأتمنى ألا تقم بزيارة أحد الملاجئ مع أطفالك حتى يقدروا نعمة أن يكون لهم أب وأم لأن هذه طريقة تربية سخيفة،، وليتنا نرحم المعاقين من التمتمة أمامهم بدعاء "الحمد لله الذى عافانا"؛ لأن فى هذا السلوك قلة ذوق، فالمعاق واليتيم والفقير لم يخلقوا فقط كى تتذكر جنابك وأنجالك ومدامك نعم الله عليكم، وحتى لا يزايد أحد البهاليل أقول له: "ابقى ادعى بعد ما يمشوا، مش لازم قدامهم..خلى عندك ذوق".
