
بين العفوية والتخطيط
وائل عادل
بين العفوية والتخطيط
لا ينظر للتغيير السياسي في ظل تحولات كبيرة تعصف بأنظمة وتقيم أخرى بنفس منطق العمل التجاري، الحسبة المادية البحتة. لأن هناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر في مسارات الأحداث وطبيعة القرارات. ومع الدعوة المتكررة للتخطيط وإعمال العقل يجب أن نقدر أيضاً طبيعة التحولات الكبرى ودور العفوية فيها.
فمن يخوض معركة التغيير قد يكون فرداً أو مجموعة، ويجب التمييز بينهما على مستوى دوافع التحرك أو النمط الذي يصبغ شكل هذا التحرك. ولا ينبغي أن نقيس حركة الفرد بنفس المسطرة التي نقيس بها حركة المجموعة.
أما التحرك الفردي فتحركه مشاعر الغضب، والرغبة في الانتقام أحياناً، ومشاعر تأنيب الضمير إن لم يشارك حتى ولو في عمل لا تبدو له ملامح تخطيط واضحة. إنها "لعنة القعود" التي يخشى أن تطارده إن توقف عن تحدي الظلم. حسبة أخرى غير حسبة النصر والهزيمة، حسبة الشعور براحة الضمير وإخماد الصراع النفسي بأي وسيلة كانت. وهذه الحركة التي تبدو على المستوى العملي عبثية، قد تُنتج نتائج عظيمة إن التقط خيطها عقل راجح، يصنع من قصة كفاح فردية أسطورة ملهمة، خاصة حين يعاد تعريف العمل الذي قام به الفرد بعفوية.
فالفرد المقاوم بعفوية هو الذي يثبت أن النبض لم يتوقف في المجتمع. فالمجتمع لم يمت كما يصورون، ولا يجوز دفنه بعد.
والفرد المقاوم كذلك يؤرق ضمير الكيانات والمجموعات المستكينة، فهو الذي يزجرهم بفعله، حتى وإن أدانوه فإنهم في قرارة أنفسهم يشعرون بعار الصمت.
والفرد المقاوم الذي لا يمتلك أي تصور أو أدوات للحركة هو الذي يشعل الفتيل بعمل غير مدروس على الإطلاق، مثل البوعزيزي في تونس، الذي شعر بالمهانة ولم يُطق. لم يكن يملك خطة، ولم يكن يدري أن نيراناً أشعلها في نفسه ستلتهم رؤوس أنظمة فاسدة، وتشعل روح الثورة في شعوب كان يُعتقد أنها ماتت. وهو ما يعني أن كل تحرك فردي عفوي هو فتيل محتمل، وكل صرخة كرامة من جسد هزيل قد تنبيء بهبوب عاصفة لا تبقي ولا تذر.
أما التخطيط والإعداد فالمعني به أكثر الكيانات والمجموعات التي لديها أدوات للفعل، ويؤمَل أن تحصد ثمار العفوية، وتلتقط الخيط لتغزل منه ثوب المقاومة الرائع. فكم ضاعت من صرخات فردية لم تلتقطها مجموعات، وكم أُجهضت بذور ثورات في مهدها ليس بأيدي الخصوم، ولكن بتجاهل المجموعات والحركات التي لم تكن متأهبة.
ولا يعني هذا أن كل فرد سمته التحرك العفوي، أو أن العمل الفردي غير قابل للتخطيط. لكننا فقط نركز على لمحة من لمحات المقاومة، وزاوية نظر تستوجب التركيز، حتى نقرأ الهبَّات الفردية العفوية في سياق متزن يمكن استثماره.
الأفراد العفويون الذين ينطلقون من منطلق الكرامة والأنفة ويقظة الضمير، ولا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، هم من يعطون المبرر للمجموعات كي تتحرك، هم المادة الخام للثورة التي تتشكل لاحقاً بفعل مجموعات واعية، هم مخزون الفتيل الثوري، إن لم يشتعل أحدهم اشتعل الثاني، فإن لم يشتعل فالثالث وهكذا.. لذلك كان تقديرهم وإكبارهم، فهم من يمنحوننا كل يوم فرصة جديدة للحياة. ويمكن أن يكون وجودهم مؤشراً على حيوية المجتمع المقاوم، والفرص الكامنة فيه للتغيير.
لا تنازع بين العفوية والتخطيط، فالعلاقة متكاملة.. فالعفوية تبذر البذرة، والتخطيط يرويها. والعفوية تدفع بالتخطيط إلى الساحة، والتخطيط يخرجها منها. فحين يأتي أهل التخطيط والعمل المدروس، تقل الهبات العفوية للأفراد، فحيثما وُجد مساراً فعالاً للمقاومة؛ تقل الأعمال غير المدروسة. وبذلك تستريح العفوية قليلاً.. حتى يأتي وقت يغيب فيه التخطيط.. فتنزل العفوية مجدداً لاستدعائه!!