الحرب العربية الكبرى
إسماعيل الاسكندراني
الحرب العربية الكبرى
تعجبت حين زرت متحف العاصمة الألمانية برلين فوجدتهم مهتمين بإبراز تاريخ آخر محاكمة لساحرة في تاريخ ألمانيا في القرن الثامن عشر، تحديداً في عام 1775، لكن عجبي لم يدم طويلاً حين تذكرتُ أن المملكة العربية السعودية لا تزال تحاكم مواطنيها بتهم السحر والشعوذة في مكة المكرمة وغيرها. تساءلت عمّا إذا كانت جزيرة العرب متأخرة في التفكير العلمي والعقلاني عن ألمانيا وسائر أوروبا بثلاثة قرون حقاً؟!
أما زيارة قصر السلام في لاهاي بجنوب هولندا، حيث مقر محكمة العدل الدولية الذراع القضائي للأمم المتحدة، فقد أثارت في ذهني تساؤلاً من نوع آخر. فقد أنشيء ذلك القصر المنيف في مطلع القرن العشرين في سياق إنهاء حرب اندلعت في أوروبا عام 1899، فاتفق الطرفان الروسي والأمريكي على إنشاء محكمة للتحكيم الدولي عام 1903 على أن يرفق بها مكتبة ضخمة للكتب القانونية، ولكن ماذا أغنى قصر السلام عن اندلاع الحربين العالميتين وقتل عشرات الملايين وتدمير مئات المدن؟!
اندلعت الحرب العالمية الأولى منذ قرن وأقل من سنة، في يوليو 1914، وكان الأوروبيون لا يزالون في سكرة "مجد الحرب" الموروث من القرون الوسطى. خمس سنوات من قتل جحافل الجنود، وسفك ملايين دماء الأبرياء، وتدمير البيوت والمصانع، وحرق المزارع، وتخريب الحياة، بالتوازي مع سيلان لعاب القادة على اقتسام أراضي الدولة العثمانية وخيراتها واللعب بحدود الدول على أصوات قرع كؤوس الخمر. انقضت الحرب العالمية الأولى وتغيرت الخريطة السياسية للعالم. عقد مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وأقيمت "عصبة الأمم" كأول منظمة دولية تهدف إلى إقرار السلام وإيجاد حلول للنزاعات بالتحكيم والتفاوض بديلاً عن الحروب.
لم يكن غرور القوة قد انتهى بعد في أوروبا الناهضة صناعياً وتقنياً، فلم يمر عقدان حتى دقت طبول الكابوس الأكثر ترويعاً الذي لم ينته إلا بالجريمة النووية الأمريكية في حق هيروشيما ونجازاكي في اليابان. عشرات الملايين اختفوا من تعداد سكان الكوكب، ومئات المدن تحولت إلى أطلال وركام، ومجتمعات انهارت، ودول سُحقت، وقارة كانت في صدارة العالم خضعت لهيمنة القوة الأمريكية الجديدة التي تقلدت زمام الأمور، وعززت نصرها في الحرب الساخنة بنصر لاحق في الحرب الباردة.
ست سنوات جديدة من بؤس الكائنات الظلومة الجهولة التي تسكن هذا الكوكب انتهت بانتحار هتلر وإرغام أنف الإمبراطور الياباني المقدس في وحل الهزيمة البشرية، وساعتئذٍ فقط أدركت أوروبا أن الحرب وبال على الناس أجمعين، وأن التفاهم والتفاوض والتنافس الاقتصادي هي السبل السليمة لبقاء جنس البشر إذا أرادوا البقاء فعلاً. بعد ذلك فقط، وليس قبل القنبلتين النوويتين، أقيمت منظمة الأمم المتحدة، ووضعت المواثيق العالمية لحقوق الإنسان بشقيها؛ السياسي والمدني من ناحية، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي من ناحية ثانية، كما صيغت اتفاقيات الحروب وحقوق الأسرى، وأنشئت محكمتا جرائم الحرب والجنائية الدولية.
هل تأخر العرب في نضجهم السياسي والحقوقي قرناً واحداً كاملاً عن أوروبا؟ هل هذا كثير؟ أم أنه أفضل من تأخرهم عنهم في التفكير العلمي ومحو الأمية؟!
تجري الآن حرب عربية كبرى لن يكون من التعسف أن نقول إنها بدأت في ليبيا في 2011 ثم استعجل بها بشار السفاح وعلي عبد الله صالح محروق الوجه، ثم ما لبثت أن تحولت المنطقة إلى ساحة تجريبية وتخريبية للأطراف الفاعلة إقليمياً ودولياً. هي حرب من نوع جديد لم يختبره العالم من قبل بمثل هذا التعقيد. من ناحية، فهي حرب مؤدلجة سياسياً ودينياً، وهي حرب قائمة على الحشد المذهبي عقائدياً وأيديولوجياً، ومن ناحية ثانية فهي حرب تعترك فيها الجيوش النظامية مع جيوش قبلية وعشائرية ومتمرسين في حروب العصابات. أما صراعاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكامنة فيها فهي نضالات الشعوب ضد حكامهم المستبدين الذين يريدون كتم أصوات الثورات والانتفاضات من أجل الحرية والكرامة والعدالة وانتزاع الحكم من أيدي القلة المستبدة ونقل عدوى التحرر، فلا يملكون إزاء ذلك سوى صوت المدافع وأزيز الطائرات وأرتال الدبابات والقصف العشوائي المجرم قاتل الأطفال ومدمر البيوت.
هي حرب كبرى لأن حقيقة ما تريد أن تخفيه أو تشوّش عليه كبير ولن يمكن إسكاته ولا إهماله. وهي كبرى لأن أغلب أطرافها يتحلون بقدرٍ كبيرٍ من الحماقة والصلف ستجعل خسائرهم القريبة والبعيدة أكبر مما يتوقعون. وهي كبرى لأنها – للأسف – ستستغرق وقتاً أطول مما نرجو جميعاً كي نبدأ البناء على نظافة.