رئيس التحرير: عادل صبري 02:42 مساءً | الخميس 18 أبريل 2024 م | 09 شوال 1445 هـ | الـقـاهـره °

علي عزت بيجوفيتش، ما بعد الإخوان والمسيري

في الذكرى التسعين للمفكر العملاق

علي عزت بيجوفيتش، ما بعد الإخوان والمسيري

محمود هدهود 08 أغسطس 2015 17:41

تأتي اليوم، الثامن من أغسطس، الذكرى السنوية المائة لميلاد الرمز الإسلامي المعاصر علي عزت بيجوفيتش الذي عاد إلى الواجهة مؤخرا، ولكن ليس من نافذة السياسة هذه المرة كما كانت سابقتها في التسعينات، بل من نافذة الثقافة، حيث صار الرجل أيقونة من أيقونات الإسلام الثقافي. وعلى الرغم مما حظي به الرجل وأعماله مؤخرا من اهتمام واسع إلا أن هذا الاهتمام صُبَّ على قراءة علي عزت في ضوء أعمال المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري، كناقد للحضارة الغربية، ومتمركز حول الإسلام، في ثنائية صلبة يمثل النموذج الإسلامي أحد طرفيها بينما يقبع الغرب في طرفها النقيض.
 

علي عزت بيجوفيتش كمثقف غربي

التقيت بعلي عزت بيجوفيتش مبكرا قبل أن تلقي القراءة الأخيرة ظلالها عليه، وقبل أن أقرأ أعمال المسيري. كانت أجواء يناير تخيم على المشهد، وتبعث أشباح الأسئلة الوجودية الحقيقي منها والزائف. كانت التساؤلات حول مدى مطلقية الإسلام وحاجة الحضارة العصرية الصادقة إليه تحاصرنا. دخلت عالم بيجوفيتش بتوقعات متواضعة عن سياسي ضل طريقه إلى الكتابة، لكنني دخلت كسائح لديه فراغ يريد أن يملأه بمطالعة أعمال المسلمين الغربيين.

هيمنت شخصية بيجوفيتش البارزة في الكتاب عليّ سريعا، فالرجل لم يظهر لي كمنظر يخاطب جمهوره بآخر ما توصل إليه من أفكار بعد البحث والتقصي، بل كإنسان يبث تجربة تأملية فريدة. كان من بين ما أذهلني الحمولة الثقيلة من التراث الغربي التي ألقاها بيجوفيتش في الكتاب، والتي تضمنت الأعمال الأصلية لفلاسفة يونانيين، كـ أبيقور، يندر من يهتم بمطالعة أعمالهم الأصلية. يخبر علي عزت بأنه طالع نقد العقل المحض لـ كانط (وهو واحد من أعقد كتب الفلسفة في التاريخ) والتطور الخلاق لـ هنري برجسون (فيلسوف فرنسي صوفي حاصل على نوبل في الأدب حيث جمع بين حذق الفلسفة والملكة الأدبية) وتدهور الحضارة الغربية لـ شبنجلر، قبل أن يصل إلى العشرين من عمره.

كانت لدي معضلة وقتها، فكيف يدعى علي عزت مفكرا إسلاميا بينما لا يزيد ما أورده من مراجع إسلامية في كتابه عن 3 % من مجمل الإحالات؟

عندما أراد مصطفى كمال أتاتورك تغريب التركية التي كانت تستخدم الأبجدية العربية، كان من بين ما أورده من دواعي التغيير هو استبعاد الميراث التراثي الثقيل من الإسلام بحيث لا يأخذ منه الأتراك سوى القرآن. وعلى الرغم من أنني لا أثق كثيرا في سياسات مصطفى كمال ولا حتى في نواياه، إلا أن الفكرة بدت لي قادرة على تفسير ذلك القبول الواسع الذي تحظى به أعمال المسلمين الغربيين. إنهم لا يأخذون من الإسلام سوى القرآن، بينما يقرؤونه بعقل مشرب بباراديم حديث. بإمكانك أن تهدي أعمال أي منهم إلى أي إنسان حيث يناسبه قراءته والاستمتاع به، بخلاف أدبيات كثيرة في مكتبتنا الإسلامية تبدو حصرية للمسلمين على خلاف رسالتهم الكونية.
 

الأنجلوساكسونية والإسلام

<a class=علي عزت بيجوفيتش و بيل كلينتون" src="/images/ns/2384433171439027109-081.jpg" style="width: 600px; height: 400px;" />
 

لا يبدو علي عزت في كتابه ناقدا للغرب، بل على العكس، ناقدا لنقاد الغرب. تركز نقده على الماركسية المنبوذة غربيا، بينما أشاد كثيرا بإنجلترا التي وصفها بأنها حاولت أن تكون استثناءً من العجز الأوروبي عن السير في الطريق الوسط. يمكن اعتبارها إشادة بالنمط الأنجلوساكسوني ككل، حيث يقول:

"ولكن يوجد جزء من العالم الغربي – بسبب موقعه الجغرافي وتاريخه - بقي متحررا من التأثيرات المباشرة لمسيحية القرون الوسطى، متحررا من العقد المستعصية لهذا العصر. هذا الجزء من العالم الغربي كان دائم البحث عن طريق ثالث، وقد اهتدى إليه، وهو طريق يحمل في ثناياه ملامح من الطريق الثالث للإسلام. والدولة التي أعنيها هي إنجلترا وإلى حد ما أيضا العالم الأنجلوساكسوني بصفة عامة" (الإسلام بين الشرق والغرب، 250)

لم يكن المسيري كذلك مجرد ناقد ساخط، لكن قراءة علي عزت عبر عدسة المسيري أفقدته فرادته واختزلته. إن علي عزت لا ينتقد الغرب بقدر ما ينخرط فيه ليتجاوزه من خلاله، لذا لا يبدو الإسلام في خطاب علي عزت مناوئا للغرب بقدر ما يبدو مستوعبا له.

 

الإسلام أن تكون إنسانا لا أن تكون إلها

عقد علي عزت خاتمة لكتابه الإسلام بين الشرق والغرب عنونها بالتسليم لله. إن التسليم هو جوهر الإسلام في الحقيقة، ومنه اشتق اسمه، بحسب علي عزت.

إن ملامح وجه علي عزت المتجعد، المثقلة بخبرة السنين، وعينه الحزينة، تخبر ببساطة عن من هو علي عزت، وما هو التسليم لله الذي كان خلاصة تجربته الطويلة تلك. إن الحياة في جوهرها مأساة، منذ لحظة الإلقاء، حين ألقي الإنسان في هذا العالم، وهو عاجز عن مواجهته وحده. عليه أن يعترف بأنه إنسان، أي أنه مواجه بما هو فوق قواه المتهاوية، وعليه لذلك ألا يخجل من الاعتراف بإنسانيته، وهذه كانت إجابة علي عزت على الأسئلة التي لا مفر منها التي واجهها عبر عمره الطويل.

من يقرأ أسئلة لا مفر منها وهي السيرة الذاتية يرى علي عزت إنسانا لا يرسم عبقرية أو شجاعة استثنائية كالتي نرسمها نحن لأبطالنا العظام. نحن من يحتاج إلى هذه الصورة لأننا نتمنى أن نكونها. أما علي عزت فيدرك أنه كإنسان ليس إلها ولا يمكن أن يكون إلها. وعظمته هي أن يعترف بإنسانيته، وأن يسلم لله الذي قدر عليه تجربة مواجهة الحياة المريرة.
 

علي عزت وما بعد الإخوانية


 

ظهر علي عزت في الإعلان الإسلامي إخوانيا صلبا على خلاف ما يصوره الإسلام الثقافي. فعلى مدى الكتاب يظهر علي عزت مهموما بمسائل الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي، ساخطا على المشايخ بأفكارهم التراثية على الإسلام؛ هؤلاء "الذين اختنق الفكر الإسلامي الحي في عناقهم المميت". يبدأ الكتاب بالسخط على المحافظين والحداثيين كليهما، منطلقا من الموقف الإخواني المركب نفسه.

يبدو واضحا في أفكار الكتاب مدى تأثر علي عزت بـ سيد قطب الذي يغلب على الظن أن علي عزت عرف أفكاره بوضوح عبر العائدين من مصر الستينات، ويذكره علي عزت بالفعل في إحالات الإسلام بين الشرق والغرب. وتصل إخوانية علي عزت إلى ذروتها في حديثه عن العمل المنظم لتحقيق النهضة الإسلامية حيث يقول:

"إن كل عمل يراد به التأثير على الأحداث لا بد أن يكون عملا اجتماعيا، وكل نضال ناجح لا بد أن يكون نضالا مشتركا منظما. ولن يكون الجيل الجديد قادرا على القيام بمهمته في التغيير إلا إذا وضع طموحاته ومثاليته في قالب حركة منظمة يقترن فيها الحماس والقيم الشخصية للأفراد، بأساليب العقل المنسق المشترك، وتأسيس مثل هذه الحركة بهدف واحد وبرنامج واحد هو شرط ونقطة انطلاق للنهضة في كل البلدان الإسلامية" (الإعلان الإسلامي، 151)

لكن علي عزت عاد فأسس مع رفاق النضال في البوسنة، حزبا سياسيا على النمط الغربي (حزب العمل الديموقراطي عام 1990) لا حركة أيديولوجية بخلاف ما كان يدعو إليه في الإعلان الإسلامي (ص129)، وتحولت الديموقراطية في خطابه إلى مطلب المسلمين الأصيل حيث يقول علي عزت:

"واحد من المؤلفات الأخيرة التي وجدت طريقها إلى يدي هو الإسلام والديموقراطية لـ جون إسبوسيتو. يقرر إسبوسيتو حقيقة أن خواتيم القرن الحالي تمر تحت وطأة اتجاهين يعمان العالم الإسلامي: العودة إلى الإسلام والمطالبة بالديموقراطية. تقف أمام كل حكماء المسلمين مهمة التوفيق بين الإسلام والديموقراطية على أحسن صورة" (خطاب أمام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة 1997)

لقد أصقلت السنوات والعمل السياسي، والانخراط في الدولة وحمل هموم الشعب الواقعية، فكر بيجوفيتش، وحولت شعره الأشقر المرتفع فوق رأسه، كحماسة بيانات الإعلان الإسلامي، إلى شعر أبيض متطاير اعتركته الحياة، هادئ وحكيم كما تقتضي المسئولية.

 


اقرأ المزيد:

بين كتابين: هروبي إلى الحرية و أفكار خارج القفص

في فهم المسيري.. في فن كسر النسق

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    اعلان