المتتبع لتاريخ السجون المصرية يجد أن أول مصلحة للسجون في مصر تمّ إنشاؤها عام 1884 ونظرًا لأنَّ سياسة الدولة في هذا التوقيت كانت قائمة على أنّ السجن دار للتهذيب والإصلاح ليخرج منه الفرد صالحًا ليكون عضوًا في المجتمع، فقد تمّ نقل تبعية هذه المصلحة الي وزارة الشئون الاجتماعية واستمر هذا الحال حتى عام 1958 بنقل تبعية المصلحة الي وزارة الداخلية مع عدد كبير من التعديلات المتعلقة بالسجون لتعود السجون دارا للعقاب.
في هذه الفترة الزمنية وفي عام 1956 تمّ وضع قانون تنظيم السجون وتعديل لائحته التنفيذية، ولكن للعلم أن القانون ولائحته التنفيذية ليسا هما ما يتم تطبيقه في السجون المصرية بشكل عملي، ولكن هناك دليل إجرائي يسمى (دليل إجراءات العمل في السجون) هذا الدليل غير المعلن صدر على جزءين في أعوام 1966 و 1969 وتم تعديلهما بالقرار رقم 297 لسنة 2006 ليكون هو القانون الفعلي السرّي المطبق داخل السجون المصرية.
هذه القوانين واللوائح والأدلة لا علاقة لها فعليًّا بواقع السجون التي تطبق منهجية متبعة بشكل آلي لتخرج من السجون إما أشباه بشر أو جثث إلى المقابر، هذه الآلية هي فن يؤدي إلى تحول السجين إلى مريض محجوز في زنزانة ينتظر الموت، يتم نحت هذا الفنّ عبر سلسلة متكاملة من الإجراءات بعيدًا عما هو منصوص عليه في القوانين واللوائح، تبدأ هذه السلسة من لحظة لدخول السجين إلى مبنى السجن بما يسمي «التشريفة» وهي طابور من العساكر مصطَفّ على الجانبين يمرّ وسطه المسجونون لتبدأ سلسلة من الإهانة والضرب والسبّ والجلد بالأيدي والأحزمة والعصي، تؤدي هذه الضربات إلى إحداث إصابات دموية بجسد السجين المهترئ وتنتقل الدماء مع العصي من جسد مسجون إلى الآخر دون تفرقة بين سليم ومريض أو شاب وشيخ الكل يتعرض لذات الضربات والإهانات.
يدخل المسجونون إلى المرحلة الثانية بإدخالهم جميعًا إلى ما يسمى عنبر الإيراد، ليبقي المسجونون في هذا العنبر لمدة 11 يومًا لا يحق لهم الخروج ولا التريض ولا الرعاية الطبية ولا الأدوية ولا الأطعمة الصحية ولا زيارة ولا أي شيء، بل يتم حرق ملابسهم المدنية المخالفة لزي السجن، ويبقى السجين في هذا المكان شبه عارٍ في عنبر لا مكان فيه للنوم ولا قضاء حاجته مما يسهل مهمة الحشرات الناقلة للأمراض التي تنتقل بين المسجونين بسهولة مع وجود القاذورات في كل مكان، ونظرًا لعدم توافر أدوات النظافة الشخصية من صابون وأمواس حلاقة قد يستخدم المسجونون ذات الأدوات لتكون الفرصة سانحة لنقل الأمراض من فرد إلى آخر.
بعد مرور 11 يومًا بلا أي رعاية ينتقل السجين إما إلى عنبر السجن أو إلى الحبس الانفرادي حسب رغبة مأمور السجن والذي لا تتوفر في أي منهما أي شروط صحية فلا تهوية ولا شمس، والحمام بلا باب ليكون انتقال الحشرات مثل الذباب والناموس والبق من القاذورات إلى جسد السجين سهل وميسر لتنتقل معه الأمراض.
يزداد هذا الوضع المأسوي مرارةً بوجود طبيب السجن الذي في الغالب يتم اختياره ممارس عام لا يمكنه تشخيص مرض ولا وصف علاج ولا توجد لديه سلطة لإصدار قرار بنقل أي مريض الي المستشفى، فدوره لا يتعدي وصف المسكنات.
هذه السلسة المتوالية تصنع فنًّا مخالفًا للقانون واللوائح وحتى الأدلة السرية للعمل في السجون، فنًّا يؤدّي إلى قتل الإنسان السجين بالبطيء، حتى يتم تدمير جسده في النهاية فإما أن يخرج من السجن شبه إنسان أو يموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزت غنيم
المحامي والباحث الحقوقي