كان من المفترض أن أكون في هذا التوقيت تحديدا بميدان رابعة العدوية، للقيام بعملي في تغطية الأحداث، لكن الفضول الصحفي ساقني إلى ميدان رمسيس والذي كان الجميع يتوقع أن يكون أكثر سخونة.
بمجرد وصولي إلى هناك صاعدا من مترو الأنفاق، كانت حالة من الفوضى تسود ميدان الملك الفرعوني، قنابل غاز تنطلق من مدرعات الشرطة أعلى كوبري أكتوبر، وتكبير من قبل المتظاهرين، الذين انتشروا في مختلف الأنحاء، ومواجهات أعلى الكوبري مع الشرطة، و...لم تستطع عيناي تحمل أكثر من هذا إذ سقطت إحدى القنابل على مقربة مني، عدوت كما الجميع، في حين انطلق صوت أنثوي مجلجلا يدعو الجموع بالثبات وعدم الفرار.
انطلقت هربا في شارع كلوت بك، التقط أنفاسي بالكاد، وقررت أن أشتري بطارية بدل الأخرى التي نفذت لكاميرتي الصغيرة، ثم قفلت عائدا إلى الميدان.
كانت المعركة قد وصلت إلى مرحلة متقدمة للغاية، حيث تقدم المتظاهرون من أنصار الرئيس الذي ورغم اختلافي معه ومع جماعته في الكثير من النقاط، أعتبره رئيس مصر الشرعي.
انسحبت مدرعات الشرطة تحت وابل الحجارة الذي انهمر عليها، وفجأة ظهرت مدرعة أخرى، وبدأت عملية إطلاق قنابل مدمعة بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلى قيام عدد من البلطجية أعلى الكوبري بإطلاق الخرطوش الذي أصاب أعدادا كبيرة من الناس، ودفعهم للتراجع.
بدأ الطوفان البشري ينحسر تدريجيا، ومع الوقت تشتت المتظاهرون في اتجاهات عدة. كنت من بين من سكلوا شارع رمسيس باتجاه العباسية، بحثا عن أي مكان آمن، أستطيع من خلاله أن استقل أية وسيلة مواصلات إلى فيصل حيث أقيم.
فجأة اتضحت الرؤية رغم كثافة الدخان، إذ تمت محاصرتنا من جميع الجهات بقنابل الغاز والخرطوش، وتمركزت فوق كوبري غمرة مدرعتين تطلقان قنابلهما.
حالة من الهرج والمرج سادت الأجواء، تفرقت الجموع الحاشدة، لتصبح مجموعات قليلة، تتلمس السبل للخروج من ميدان الموت والاختناق.
كنت ضمن جماعة يتراوح عددها بين 250 إلى 300 شخص قررت اللجوء إلى إحدى الطرق الجانبية، في محاولة للالتفاف من خلف كوبري غمرة، لكننا فوجئنا بعدد من أبناء منطقة العباسية يقيمون لجان شعبية تبين لاحقا أنها أقيمت خصيصا لترويع وملاحقة المتظاهرين، وليس لحماية الأحياء من البلطجية، كيف والبلطجية أنفسهم من يتصدرون المشهد في تلك الشواره حاملين السيوف والسنج والخرطوش.
حاولت اللجنة الشعبية منعنا لكن دون جدوى، وحاول المتظاهرون أيضا إقناعها بأنهم مصريون مثلهم وليسوا إرهابيين كما يحاول الإعلام أن يصور ولكن..أيضا دون جدوى.
ورغم محاولات المنع، مررنا رغما عن الجميع، كان المتظاهرون يلقون السلام على الأهالي التمترسين تحت عماراتهم، في محاولة لطمئنتهم، وكذلك فعلوا بشكل مهذب مع الواقفين في الشرفات .
ظننت أن الأزمة قد انتهت، وسأعود إلى بيتي لأتناول السحور، وأنام سويعات قليلة قبل أن أرتدي ملابسي مسرعا نحو العمل، لكنها أضغاث أحلام، فقد سقطت والمجموعة التي كنت معها في فخ محكم، حيث فوجئنا أولا بصوت إطلاق نار من خلفنا، وكأنها إشارة لبدء المطحنة، إذ حاصرنا البلطجية و الأهالي من كافة الاتجاهات، ثم قاموا بالإنقضاض علينا في مشهد مأسوي، أعاد إلى ذاكرتي قتل العراقيين لعدد من مرتزقة "البلاك ووتر" الأمريكية وسحلهم في شوارع الفلوجة.
أيقنت أني هالك لا محالة، فإن أخطأتني طلقات الخرطوش فلن تفعل زجاجات المياه الغازية التي رشقونا بها ، وإن فعلت فسوف تصحح الحجارة المنهمرة علينا أخطاء زميلاتها.
مشهد لن أنساه أبدا، الكل يستهدفك، ويسعى لقتلك وكأنك شيطان أو مسخ دميم، كان سكان كل عقار وقد تجمعوا أسفله حاملين الهراوات ورافضين إدخال المصابين، حتى النساء اللاتي كن معنا، سقط بعضهن على الأرض، فالتجئنا إلى سكان العقارات الأفاضل بحثا عن ذرة رحمة في قلوبهم لإيواء النساء فقط، ولكن بدا أن الرحمة كما كل فضيلة أخرى قد اختفت من المشهد تماما.
من بيننا من سقط في مداخل العقارات خلال رحلة العدو التي لم تتوقف، شعرت بحجر" طوبة" تصيب رأسي اثناء عدوي على غير هدى، دقائق وأصبت بزجاجة في ساقي، انهكت وبدأت قواي تخور شيئا فشيئا، مع شعوري بشد عضلي في "سمانة" ساقي اليسرى، جلست على إحدى الأرصفة وسط المعمعة ورددت الشهادتين، فإذا بصاحب المحل الذي كنت جالسا أمامه يحاول أن يدفعني بالقوة، وكان محله قد تحطم، أبرزت له هويتي الصحفية" كارنيه النقابة" أخبرته أني كنت أقوم بعملي وحدث ما حدث.
استطعت إقناعه بصعوبة، فطلب مني أن أقف إلى جواره حتى تنتهي الأزمة، وفعلا فعلت، لم أكن وقتها أرى مجموعة الموت التي كنت قبل دقائق أحد أعضائها، فمصيرها مجهول بالنسبة لي، مساكين هؤلاء.
انتهى الأمر بأن ركبت سيارة ميكروباص، كانت الوحيدة التي وجدتها في ظل انقطاع المواصلات، كانت مكتظة عن آخرها لدرجة اضطررت إلى أن أقف داخلها منحنيا، لم أكن أعرف وجهتها حتى، وفي منطقة باب الشعرية إذا بكتيبة بلطجية يحملون السيوف العملاقة وسلاح الخرطوش يستوقفون السيارة، بحثا عن "إرهابيين" أو بمعنى أصح ملتحين!!.
رأيت كما رأي غيري من الركاب أمين شرطة بزي ميري يقف حاملا رشاش آلي مع البلطجية ويقوم بتوجيهم، شعرت بمرارة في حلقي، لم تنته حتى الآن، وأظن أنها لن تفعل.