"غالي".. شاب سوداني، كانت خطوته الأولى إلى مصر ليستخدمها كمحطة، أمام حلمه النهائي فكان الوصول إلى أوروبا، والتي تعد بالنسبة له الأرض الموعودة، وبين الخطوة والحلم جاء الكابوس، الذي روت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية بعضا من تفاصيله، في تقرير لها قبل يومين.
تورد الصحيفة على لسان "غالي" قوله إنه اع إحدى كليتيه مقابل وعده بمبلغ 4500 يورو، بعد أن طمأنه الطبيب المصري الذي أجرى العملية له بأنه ليس هناك أي خطر على صحته، لأن الإنسان يمكنه العيش بكلية واحدة دون مشاكل.
لكن العملية الجراحية التي أجريت لهذا المهاجر السوداني البالغ من العمر 29 عامًا، في إحدى عيادات القاهرة الخاصة، تسببت له ببعض الآلام الحادة التي أدت إلى تدهور وضعه الصحي، ناهيك عن أن تاجر الأعضاء البشرية الذي وعده بالمبلغ، دفع له منها فقط 1500دولار فقط.
وعندما طالب الشاب ببقية المبلغ المتفق عليه، هدده السمسار، مذكرًا إياه بأنه يقيم على أرض مصر بطريقة غير نظامية.
وفِي ظل وضعه الصحي المتدهور وتبخر حلمه بالوصول إلى أوروبا، قال "غالي"، إنه لا يستبعد الخضوع لعملية جراحية ثانية من أجل دفع تكاليف رحلة العودة إلى وطنه السودان.
ورغم جهود أجهزة الأمن والسلطات المختصة، لا تزال مشكلة عصابات تجارة الأعضاء في مصر مستمرة، زبائنهم من المصريين والأفارقة، وإن كان الطرف الثاني أقل من حيث التكلفة المعنوية، فمعظمهم أتى إلى البلاد بشكل غير شرعي للعمل بمصر أو استخدامها كنقطة انتقال لأوروبا، في مركب متهالك عادة، ويتخفون أساسا من أعين الأجهزة الأمنية، لكي لا يتم ترحيلهم.
صيد سهل
هكذا بات هؤلاء في نظر عصابات الأعضاء صيدا سهلا، فالذي يتخفى من أعين السلطات لن يجرؤ على الشكوى، في حال تعرض إلى عملية نصب، يتم بموجبها قطع جزء من جسده، طوعا أو كرها، دون مقابل أو بمقابل زهيد لا يتناسب مع أول دفعة ألم سيشعر بها بعد فقدانه أحد أعضائه.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تعد مصر واحدة من الدول الأكثر تضررًا من عمليات زرع الأعضاء بشكل غير قانوني بعد الصين والفلبين والهند.
وتقول "ليبراسون" إن الكثير من المؤسسات (العسكرية أو الجامعة) والعيادات الخاصة في القاهرة هذا النوع من العمليات غير القانونية.
وتستقبل بعض هذه العيادات والمؤسسات الخاصة بعض المرضى الأغنياء، غالبًا من دول الخليج، الذين هم على استعداد لدفع مبالغ كبيرة من أجل تدخل سريع.
كما يجد الموظفون في مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في القاهرة صعوبات كثيرة في مساعدة هؤلاء المهاجرين، ضحايا الاتجار بأعضائهم، وبالتالي يكتفي موظفو الأمم المتحدة بمساعدة المتضررين منهم بشكل كبير، عبر تقديم الإسعافات الأولية وبعض الإرشادات.
العضو مقابل السفر
وفي فبراير الماضي، نشرت صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية، تقريرا كتبه الباحث والمحاضر في القانون بجامعة ليفربول "شين كولامب"، قال فيه إن بعض المهاجرين الأفارقة في مصر يضطر لتقديم أعضائه بديلا عن المال الذي لا يملكه ويحتاج دفعه للحصول على مساعدة هذه العصابات في تهريبه بشكل غير قانوني إلى الساحل الجنوبي من أوروبا.
العصابات أحيانا تأخذ أعضاء المهاجرين، بشكل قسري، وهو ما نقلته "الأوربزرفر" عن "عائشة" السودانية، التي انتقلت من الخرطوم للقاهرة بعدما أقنعها عدد من الأشخاص أنهم سيوفرون لها عملا ثم ينقلونها إلى إيطاليا، على حد قولها.
وقالت "عائشة": "لم أكن أثق بهؤلاء الناس، لكن الحياة كانت مستحيلة في الخرطوم وأولادي كانوا مرضى بسبب عدم وجود طعام، ولهذا صدقتهم".
وأضافت أنها عندما وصلت إلى القاهرة أخبروها أنها لن تذهب إلى إيطاليا، ولكنها سـتتبرع بكليتها، ووعدوها بـ2000 دولار لو قبلت، وإن رفضت فسيتم أخذها بالإكراه، ثم نقلوها إلى شقة في الإسكندرية.
وذكرت "عائشة": "عرفت أنني في الإسكندرية لأنني رأيت البحر من السيارة، وبعدها وجدت نفسي في غرفة بمعدات طبية، وهذا كل ما أتذكره، ووضعوني في الغرفة وطلبوا مني التفكير بأبنائي".
وقامت "عائشة" بتقديم بلاغ للشرطة التي اعتقلت سمسارا، ثم أفرجت عنه بعد شهر، وفقا للصحيفة البريطانية.
وبحسب الصحيفة، تعيش "عائشة" في الوقت الحالي بخوف وتتعرض لحملة تهديد واستفزاز من السمسار ورجاله الذين قالوا لها إن حياة أبنائها في خطر لو لم تقم بسحب بلاغها، وتقول: "أنا خائفة لما سيحدث لأطفالي وأخشى أن يأخذوا أعضاءهم أيضا".
ضربات الداخلية
السلطات المصرية، وجهت أكثر من ضربة لتلك العصابات، ففي أغسطس 2017، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على 12 شخصا في الجيزة كونوا شبكة للإتجار بالأعضاء، بينهم أطباء وممرضين من داخل أحد المستشفيات الخاصة بالجيزة.
وأوضحت وزارة الداخلية، آنذاك، أنها أوقفت بعض المشتبه بهم أثناء إجرائهم جراحة استئصال كلى وأجزاء من أكباد مواطنين مقابل 10 آلاف دولار للواحد منهم.
حينها، ربط مراقبون بين هذه الحملة، وتحقيق صحفي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، تمكن خلاله صحفي ألماني يدعى "تيلو مشكي" من قناة "بروشايبن – proSeiben" من اختراق أوكار تلك التجارة.
وفي يوليو 2018، أعلنت وزارة الصحة عن إدانة 37 شخصا في جرائم تتعلق بالاتجار بالأعضاء البشرية.
وفي بيان من الوزارة، آنذاك، قالت فيه إن السلطات المصرية تواصل وبيقظة ملاحقة والتحقيق وجلب كل جرائم التجارة بالأعضاء للعدالة.
ولا ينسى الكثيرون ما حدث في ديسمبر 2016 عندما ألقت السلطات القبض على ما قالت إنها أكبر شبكة دولية للإتجار بالأعضاء.
وقالت هيئة الرقابة الإدارية، آنذاك، إن الشبكة تضم 41 متهمًا، منهم 12 طبيبًا و8 ممرضين وعدد من أساتذة الجامعة والوسطاء، الذي تمكنوا من تحقيق ثروات طائلة من خلال تلك العمليات الغير مشروعة.
أطفال الشوارع
الضحايا ليسوا من المهاجرين الأفارقة فقط، ولكن أيضا من أطفال الشوارع، ففي أبريل 2017، نشرت وسائل إعلام قصة رجل يدعى "مزيكا" تخصص في إغواء أطفال الشوارع المشردين والمراهقين في ساحة رمسيس، وسط القاهرة، وإقناعهم بكسب المال من بيع أعضائهم.
كان "مزيكا" يطلب الكلى و فصوص الكبد وأعضاء أخرى، مقابل 15 ألف جنيه، ويتفق مع الأطفال عادةً على البيع مقابل المال، ثم يأخذ الرجل الأعضاء ولا يدفع أبدا.
وعلى مدى شهرين تقريبًا، عمل "مزيكا" ومهربو الأعضاء الآخرين على هذا المشروع في شقة مستأجرة في المرج، وعلى ما يبدو، ولم يتم القبض على المتاجرين إلا بعد شجار في الشارع على تقاسم المال، وهو ما لفت انتباه أحد الجيران، الذي أبلغ الشرطة حول ما كان هو وغيره يشتبه في كونهم مافيا للاتجار بالأعضاء، وأدت شهاداتهم إلى إلقاء القبض على أربعة من المشتبه بهم، اثنين منهم هما شقيقان في العشرينات من عمرهما.