معارك شرسة خاضتها السيدة فاطمة اليوسف التي تحل ذكرى وفاتها الـ61 بعد أيام قليلة، منذ قررت اعتزال الفن في 1925 وإصدار مجلتها روز اليوسف التي كلفتها خسائر فادحة غير أنها وقفت بصلابة لم تستسلم في سبيل انتصارها لمبدأ حرية الرأي.
"وكان يعزيني أن مصادرة مجلتي أو إغلاقها هو العمل الثالث الذي تفرضه كل وزارة، تعطل الدستور، ثم تضع الأقفال على أبواب البرلمان، ثم تصادر روزاليوسف".. هكذا تحدث فاطمة اليوسف في مذكراتها عن مدى قوة تلك المعارك وتعاقبها الواحدة تلو الأخرى.
بداية الرحلة
رحلة روز اليوسف في بلاط صاحبة الجلالة استمر نحو 33 عاما، بدأت بفكرة في 1925 بعدما اعتزلت الفن وتركت فرقة يوسف وهبي، أدركت حاجة السوق الصحفية إلى صحافة الفنية محترمة ونقد فني سليم ويقف في موجة المجلات التي تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية.
ومن هنا، قررت إصدار مجلتها الشهيرة باسمها "روز اليوسف"، لكن بدا للقارىء أن المجلة تستهدف النخبة فعانت المجلة وانخفض توزيعها، وكان لابد من تغيير ينشط أرقام التوزيع التي وصلت إلى 500 نسخة وهو رقم ضعيف فاقترح الصحفي الكبير محمد التابعي تحويل المجلة إلى سياسية.
بدأ الصدام بين روز اليوسف والحكومة منذ اليوم الذي ذهبت فيه للحصول على ترخيص مجلة سياسية، إذ حاولت الجهات المعنية منعها من الحصول على ترخيص ذهبت إلى أحمد زيور باشا واحتجت وطالبت بإعطائها الترخيص.
ودُهش زيور باشا حين علم أن الوزارة تمنع ترخيص الصحف السياسية وقال أعطوها الترخيص خلوها تاكل عيش وانصرفت والترخيص معها، بحسب كتاب حب وحرب وحبر للكاتب الصحفي محمد توفيق.
سمعنا وأطعنا
في 1928، صدر مرسوم ملكي بوقف الحياة النيابية وإعادة العمل بقانون المطبوعات 1881 وإلغاء رخصة نحو 100 صحيفة وإنذار حزب الوفد بالتعطل، وتجريم اشتغال الموظفين بالسياسة وتجريم مظاهرات الطلبة.
تلك القرارات ألقت بظلالها على المجلة، إذ سخرت روز اليوسف من وزارة محمد محمود وانتقدت الملك فؤاد، وأرسل وزير الداخلية إنذارا إلى روز اليوسف جاء فيه: (مجلة روز اليوسف مازالت تسن بفاحش القول ومنكر الأقاصيص والإمعان في الكذب والاختلاق سنة مزرية بشرف الصحافة ومفسدة للأخلاق).
غير أن روز اليوسف سخرت من الإنذار ونشرته المجلة في صدر صفحتها الأولى وبجواره مقال بعنوان: سمعنا وأطعنا..غفرانك ربنا و إليك المصير، وجاء في التفاصيل:" أليس من حقنا على وزارتنا المحبوبة ومن حق الشعب على وزارته العزيزة أن تأمر الوزارة قلم مطبوعاتها أن يكتب للناس قائمة بأكاذيبنا حتى يفضح من أمرنا ما طال سترناه".
وتابعت:"أكنا مثلا كاذبين يوم أن زعمنا دبيب الفشل يدب في الوزارة على خف من حرير؟ أفتونا في أمرنا، إنا نراكم محسنين، فلئن لم تفعلوا فليس منا إلا الصبر على قضاء الله و إلا نشرب من البحر حتى نشبع".
وواصلت روزا الهجوم على رئيس الوزراء وتصدر الغلاف رسم كاريكاتيري لمحمد محمود باشا وهو يضع قدمه على الدستور في طريقه إلى مقعد الوزارة ولكن هذا العدد لم يخرج من المطبعة إلا نسخ محدوده منه.
وروت فاطمة اليوسف ما حدث تلك الليلة قائلة:"بعد أن تم طباعة نسخ المجلة كلها، دق جرس التليفون ينبئني أن المطبعة محاصرة و أن البوليس قد جاء إلى مصادرة العدد"، فأسرعت فاطمة إلى المطبعة ورأت مأمور قسم عابدين وضباط البوليس السياسي واثنين من الكونستبلات الإنجليز يطيحون بأعداد المجلة المتراصة يمنعونها من الخروج".
وذهبت فاطمة إلى النحاس باشا، روت له القصة، فاستدعى النحاس عدد من المحاميين الشباب لرفع دعوى قضائية مستعجلة ضد الحكومة للإفراج عن عدد المجلة ولكن الدعوى رفضت، بحسب الكاتب محمد توفيق في كتابه حب وحرب وحبر.
الإيقاف و المصادرة
فعادت فاطمة اليوسف ورفعت دعوى أخرى وطالبت بالتعويض المادي فحكمت لها المحكمة بمائتي جنيه تعويضا وتقرر هذا المبلغ باعتبار أن المجلة توزع 20 ألف نسخة وثمن النسخة قرش صاغ، فغضبت فاطمة لأن القاضي تجاهل إيرادات الإعلانات و الضرر الأدبي
ناصبت وزارة محمد محمود روز اليوسف العداء لكن صاحبتها لم تستسلم ولم ترفع الراية البيضاء فأصدرت المجلة بأسماء أخرى عن طريق استئجار رخصة مجلة أخرى، فأصدرت مجلة الرقيب و لم تستمر المجلة سوى 4 أشهر ثم صادرتها وزارة الداخلية.
فعاودت إصدار مجلة روز اليوسف، إذ صدر منها عددين فقط ثم صدر قرار بتعطيل المجلة مرة أخرى، ولم تتأثر فاطمة بما جرى وأصرت على أن تكتب اسمها على كل عدد يصدر رقم اختلاف أسمائها وتعمل بنفس الإصرار والدأب وحصلت على رخصة مجلة أخرى اسمها صدى الحق.
لكن الحكومة لم تسمح للعدد الأول بالظهور عند باعة الصحف حتى لا يرى الناس سخرية المجلة من السلطة، ولم تيأس السيدة فاطمة اليوسف واستأجرت رخصة مجلة أخرى اسمها الشرق الأدنى التي استمرت 3 أشهر فقط بعدما صدر قرار مصادرة المجلة.
في 1930، صدر قرار من مجلس الوزراء الذي ترأسه إسماعيل صدقي بتعطيل مجلة روز اليوسف نهائيا في 4 أغسطس وبعد 72 ساعة، أصدرت فاطمة اليوسف بالتعاون مع محمد التابعي مجلة جديدة سماها البرق.
وفي 13 سبتمبر من العام ذاته، صدر قرار من حكومة إسماعيل صدقي بمصادرة مجلة البرق، وبعد 6 أيام أصدرت مجلة جديدة اسمها مصر الحرة وفي 23 سبتمبر صادرها مجلس الوزراء، وفي 30 سبتمبر أصدرت فامة اليوسف و محمد التابعي مجلة الربيع وفي مساء اليوم نفسه تمت مصادرة العدد.
"عطلها بأة"
وفي 7 أكتوبر من العام نفسه، أصدرا مجلة جديدة أطلقا عليها "صدى الشرق" وكتب عليه محمد التابعي على غلافها كلمتين فقط "اللي اختشوا" وأسفل هاتين الكلمتين جملة تقول "هذه المجلة تصدر بدلا من روز اليوسف عطلها بأة" .
وكانت وزارة الداخلية عن حسن ظن التابعي فتمت مصادرة المجلة في نفس اليوم و لم تجزع فاطمة اليوسف، فقررت مع التابعي إصدار مجلة جديدة سكياها الصرخة و صدرت بالفعل في 15 أكتوبر.
وقصة مجلة الصرخة بدأت عندما عرضت روز اليوسف سيارتها التي اشترتها بالتقسيط للبيع لإصدار المجلة الجديدة وعندما علم صاحب محل السيارات السبب رفض أن يشتريها واتفق معها أن تدفع أقساط السيارة في الوقت الذي يناسبها.
وصدرت المجلة بحجم جديد وأفكارا جديدة أقبل عليها الجمهور وصدر منها 53 عدد، لكن هذه المرة أوقفتها فاطمة اليوسف لتعيد إصدار مجلة روز اليوسف وحمل العدد الأخير من مجلة الصرخة مقال بعنوان "تسليم و تسلم: بين الصرخة وروز اليوسف" في 1931.
فكوا الحصار بعد مصادرة النسخ
وبعدما صدر العدد الأول، ذهبت روز اليوسف إلى مكتب إسماعيل صدقي رئيس الوزراء واحتجت على حصار البوليس للمطبعة التي تطبع مجلتها، فقابلها صدقي و تحدث معها بلطف و قال لها: إنني سعيد بلقائك وسأطلب من البوليس فورا أن يفك الحصار عن المطبعة
وخرجت فاطمة من مكتب رئيس الوزراء وبعد خروجها اتصل اسماعيل صدقي باحمد كامل مدير الأمن العام و قال:"فكوا الحصار فورا عن المطبعة التي نطبع مجلة روز اليوسف ثم سكت قليلا وقال طبعا بعد أن تصادروا جميع نسخ مجلة روز اليوسف التي تم طبعها.
بعد فترة من خلافها في 1935 مع مصطفى النحاس الذي كان رئيسا لحزب الوفد بعد انتقادها لوزارة توفيق نسيم، تم فصل روز اليوسف من حزب الوفد والذي يعد بمثابة مصادرة جريدة روز اليوسف اليومية وحاولت فاطمة أن تصمد وظنت أن كبار الكتاب سيساندونها لكن هذا لم يحدث.
قرار الوفد: مصادرة إغلاق روز اليوسف
وفي عام 1936، بعدما صار مصطفى النحاس رئيسا للحكومة، صدر قرار بمنع منح مجلة روز اليوسف إعلانات السكة الحديد وبعد أيام صدر قرار بإغلاق جريدة روزاليوسف اليومية بدعوى عدم انتظامها في الصدور.
وتقول روز اليوسف في مذكراتها عن إلغاء النحاس للترخيص:"كان عزائي الأكبر أنني لم أحكم عليها بالموت ولم أفكر في الوقوف بها يومًا عن الصدور، بل كان توقفها من الخارج، وبإرادة لا دخل لي بها"
وفاطمة اليوسف كثفت جهودها في مجلتها الأسبوعية حتى تتفادى مصير الجريدة اليومية، وصارت من أشد معارضي حكومة النحاس فأصبحت تصدر أسبوعا وتُصادر أسبوعا آخر، وأصبحت تذهب فاطمة اليوسف للنيابة أكثر من ذهابها للمجلة.
لكن انشقاق بعض قادة الوفد ساعد فاطمة اليوسف على الخروج من هذه المحنة، إذ لم يكن أمامهم سوى "روز اليوسف" للتعبير عن رأيهم، غير أن "الوفد" حرض أحد وكلاء النائب العام ضدها واتهامها بأنها اعتدت عليه أثناء تفتيش مقر المجلة.
ساعات السجن
فصدر قرار من النيابة بحبسها، وقضت فاطمة ساعات في سجن مصر، لكن الصحف الصحف المصرية والأجنبية وقف إلى جانبها فشنوا وقتها حملات عنيفة على الحكومة لسجن سيدة صحفية، وتحت الضغط اضطرت الحكومة إلى الإفراج عنها.
ورغم ما مرت به من سجن ومصادرة إلا أنها لم تتهاون يوما في مسألة حرية الصحافة، ففي عام 1942، رسم للفنان محمد رخا الذي كان يعمل في المجلة، رسما يصور فيه الترام رقم 12 الذي يمر بـ"لاظوغلي" إلى ميدان السيدة زينب وقد علته لافتة مكتوب عليها “السيدة زينب” وكل الركاب يتطلعون إلى هذه اللافتة.
وفسر الناس الرسم على أنه تعريض بالسيدة زينب الوكيل حرم زعيم الوفد مصطفى النحاس، وبسبب هذا التفسير عطلت الرقابة المجلة، التي لم يبق لها أي مورد، ما اضطر فاطمة اليوسف إلى بيع سيارتها لتعيد مجلتها إلى الصدور.
في 1945 بعد تولى محمود فهمي النقراشي الوزراة وفي أغسطس من العام ذاته كتب إحسان عبد القدوس حينها كان لايزال محرر شاب في مجلة روز اليوسف مقال بعنوان الرجل الذي يجب أن يذهب.
وكان المقال يتحدث عن ضرورة رحيل اللورد كيلرن السفير البريطاني في مصر، وقبل أن يخرج عدد المجلة، تمت مصادرته لأنه يتضمن عيبا في سعادة سفير بريطانيا و ألقت وزارة النقراشي القبض على إحسان عبد القدوس ووضعه في السجن.
كل رؤساء التحرير تعرضوا للحبس
ومرت شهور وبعد خروجه قالت له والدته "فاطمة اليوسف": ( إن كل رؤساء تحرير الصحف تعرضوا للسجن ومادمت قد سجنت فإنك بذلك تكون قدمت أوراق اعتمادك لرئاسة التحرير،ووقعت حينها قرار بتععين إحسان عبد القدوس رئيسا لتحرير روز اليوسف.
" عشت مع روز اليوسف اليومية ثم الأسبوعية ٣٣ عاماً أنصهر في فرن السياسة، اهتزت الأرض من تحتي مرات ولم أهتز، وضعت أمامي مبادئي وأمضيت العمر أحميها من غربان السياسة وفئران القصر، كنت أقف وراء كل سياسي كبير يلف حول عنقه شرفه ووطنيته، وأتخلى عنه في اللحظة التي يخلع فيها رباط عنقه".. هكذا اختارت روز اليوسف صف الوطن و انحازت إلى حرية الصحافة حتى لو كلفها حياته.